لا يختلف اثنان على أن سيارة حقيقية، وصورة سيارة تختلفان، وأنهما ليستا نفس الشيء. أحددها بالمقاس الحقيقي ويمكن الدوران حولها ولمسها وقيادتها، بينما الأخرى يمكن النظر إليها فقط.
الإحساس الذي تولده التجربة الأولى مع السيارة الحقيقية يختلف جذريا عن الإحساس الذي تولده تجربة النظر فقط وإن كان في الحالة الثانية إمكانية تداخل الخيال والذاكرة في حال قاد الشخص تلك السيارة في السابق، في كلتا الحالتين السيارة نفسها، لكن الإحساس يختلف لأنك عشت الأولى وتفرجت على مشهد الثانية، الأولى حقيقة، والثانية تمثيل لهذه الحقيقة وابتعاد عنها.
هذا باختصار أصبح تلخيصا محزنا للحياة التي نعيشها التي تركزت أكثر وأكثر على استهلاك صور الأشياء وابتعادنا عن الحياة الحقيقية، بدلا من تجربة الشيء بأنفسنا نكتفي بالتفرج على أحد آخر وهو يقوم بذلك.
بدأ هذا النمط من الاستهلاك للصور مع سيطرة التلفزيون، واستمر حتى استفحل الأمر مع الانترنت والأجهزة الذكية.
نستهلك الصور بشراهة من لا يشبع عبر مواقع مثل: اليوتيوب وفيسبوك وانستجرام وسناب تشات وغيرها الكثير، فهو سيل من المعلومات عن تمثيل لواقع أو تمثيل لتمثيل غيرنا نتعرض له بشكل يومي.
نتعذر لأنفسنا بأننا نتفرج ونتسلى فقط وإن أردنا عذرا لتبرير ساعات ضائعة مع الهواتف الذكية قلنا: إننا نتابع من لديهم محتوى ذو فائدة وإن كنا في قرارة أنفسنا نعرف أن الفائدة محدودة مقابل الوقت الذي استثمرناه فعلا.
كم مرة مشيت بالسيارة ووجدت من يقطع الطريق أمامك وهو لا يستطيع فك عينيه عن شاشته حتى في منتصف الطريق.. وما أكثرهم؟ وكم من شخص ترتبط سماعته بأذنه طوال الوقت لأنه من غير المجدي إزالتها وتركيبها مع كثرة المشاهدة؟ أصبحت الأجهزة جزءا لا يتجزأ منا وأصبحت فعليا امتدادا لجسم الإنسان، صحيح أنها ذات فائدة، لكن فيها من الضرر الكثير عندما ننظر لأنماط استهلاكنا.
في منتصف الستينيات من القرن الماضى كتب المفكر والفيلسوف الفرنسي جاي ديبورد (Guy Debord) كتابه بعنوان «مجتمع الفرجة» (The Society of the Spectacle) الذي توقع فيه ما يحصل الآن من تشتت للذهن وانفصال عن الواقع. كان كتابه مؤثرا آنذاك و ما زال يصف بشكل واقعي اللحظة التاريخية التي نعيشها. ربط استهلاك المشاهد أو الصور بنماذج الإنتاج ووصل لنتيجة أن المجتمع باستهلاكه الصور ينفي الحياة. فالمشهد (spectacle) ليس مجموعة من الصور فحسب، بل أصبح يُعَرِّف العلاقات الاجتماعية بين الناس من خلال الصور، وإن كنا في السابق نستهلك الصور فقط فنحن اليوم أيضا من ينتجها، وبذلك نعزز قيم مجتمع الفرجة.
عندما قرأت الكتاب اضطررت لاستجواب نفسي عن ممارساتي الاستهلاكية والإنتاجية وأعترف بأنني خجلت من نفسي بعض الشيء، فمن السهل أن أنظر لغيري وأُكَوِّن وجهة نظر، لكن الكتاب اضطرني لرفع مرآة لنفسي وتقييم ذاتي، كذلك ليس لدي حل لظاهرة منتشرة مثل هذه.
فنحن نعتقد أننا مسيطرون والقرار في أيدينا في أمور كثيرة، لكن عندما ننظر للصورة الأكبر التي نحن جزء منها نجد أننا محدودو الاختيار وإن كنت لست مقتنعا بهذه المقولة، فانظر من حولك وإلى تشابه البشر وسعيهم المستمر للتشابه. ماكينة تسويقية تتمحور حول الصور وفكرة أنك حر الاختيار، لكن كما قال ديبور: «خلف قناع الاختيار المطلق تتواجه أشكال مختلفة لنفس الاغتراب» لذا فهي المزيد من نفس الشيء.
أعتقد أن علينا أولا أن نعي ما الذي نقوم به ونفهم تأثيره علينا وأن نفرق بشكل واضح بين ما نعيشه من واقع فعلي وما نعيشه كتمثيل لواقع غيرنا، لعلنا نستشعر الفارق الكبير بين العيش والنظر وبعدها لن نكتفي بالنسخة، بل سوف نطلب الأصل.
أخيرا ارفع رأسك وانظر لمن حولك وتمعن فيما يجري أمامك.. لعلك تود الانضمام للحياة.