أغلقت حائل مؤخرا دار المسنين. كان وجودها من الأساس نشازا مع قيم المنطقة وموروثها وأخلاقها التي رضعها الجميع مع حليب أمهاتهم، وحتى من لم يشرب من ثدي أمه واستبدله للضرورة البيولوجية بالنيدو أو السيميلاك، كان ماء حائل الذي أذاب حليبه فيه، أو الهواء الذي استنشقه بين ربى الجبلين كافيا لأن يبني في وجدانه تلك القيمة التي تضع (الوالدين) حيث وضعهما الرب، لا في دار للمسنين حتى وإن كانت بألف نجمة ونجمة، لأن أرقى النجوم في هذه الصلة، هي أن تؤثث قلبك لوالديك بكل ألوان الحب والبر ليسكنا هناك كما يليق بملكين. كان وجود الدار أمرا غريبا في منطقة استثناها الكرم من تسلسل درجاته لتبقى أبدا في قمة الصيت، وفوق مستوى التقييم حيث يحتفي أبناؤها بشغف بأبعد أبعد الغرباء كما لو كان ذلك فرضا من فروض الدين والديان، لا.. بل كان غريبا حد الدهشة بين ناس قد تختلف أسماؤهم وأنسابهم ومشاربهم ومستويات تعليمهم، لكنهم لا يختلفون قيد شعره على اعتناق قيمة أصيلة صار عنوانها الأصيل حاتم الطائي، ذلك الرجل الذي ورث لهذه المنطقة ومواطنيها أكبر تركة أخلاقية لا يزالون يعضون عليها بالنواجذ. لم يرد د. (ناصر الرشيد) ابن المنطقة - والذي بنى في حائل مركزا عملاقا للأيتام، وآخر للمعاقين، وعشرات المساجد، وأنفق مئات الملايين على الأعمال الإنسانية والخيرية- أن يُسهم في بناء هذه الدار (لماذا؟)، لأنه ببساطة كان يرى - كما كل أبناء منطقته- أن وجودها تعبير عن «قصور أخلاقي» أكثر منه خدمة إنسانية، لكنها حين قامت لم يرفع يده عنها، فكان شقيقه ومدير أعماله (صالح الرشيد) يوالي زياراته لها محملا بالمؤن والمساعدات، وكان يهمس لأصدقائه ويقول: المكان الوحيد في حائل الذي أتمنى ألا يكون فوقه لوحة هو هذه الدار، وجودها هنا يُخجلني، وهكذا كان الجميع ينظرون إلى تلك الدار إلى أن احتفلوا جميعا رجالا ونساء وأطفالا قبل بضعة أيام بإغلاقها وإلى الأبد إن شاء الله في ماراثون «واتسابي» لم أفرح بشيء قدر ما فرحتُ بحجم الحفاوة فيه وتداوله، ذلك لأنهم يشعرون أنها كانت النقيض تماما لأعز وأغلى وأنبل قيمة يفاخرون بها بين الناس.