بعض المشاكل التي نواجهها في حياتنا لا تنتمي صراحة إلى تخصص دون آخر، فلو أخذنا مثلا مشكلة تقديم الرعاية الصحية لمستحقيها نجد أنها مشكلة يمكن أن يتم تناولها سياسيا واقتصاديا قبل أن تدرس طبيا. وحتى داخل الأروقة الطبية نجد أن الخدمة تعتمد على جوانب إدارية وإنسانية ونفسية. لذلك فما يبدو مقصورا على الطب يمكن دراسته من جوانب عدة وداخل تخصصات مختلفة. فعلى سبيل المثال يتم تحديد الفئات التي تستحق الرعاية الطبية من خلال سن الأنظمة والقوانين التي تكفل للناس الرعاية العادلة، بينما نجد النماذج التي تحدد النفقات وإمكانية الدعم الحكومي مثلا تكون من المنظور الاقتصادي. أما إداريا فنجد أن توزيع الموارد وتنظيم عمل الرعاية الصحية أساسي في تسيير تلك الرعاية. كذلك يمكننا دراسة تعزيز العامل النفسي والإنساني للمرضى لتقليل مدة العلاج وتوفير فرص لشرائح أكبر من المستفيدين. مشكلة واحدة يمكنني أن أتناولها من زوايا مختلفة وعلى حدة ولكن إن درستها بشكل متداخل يتوقع لي أن أكتشف أمورا لا يمكن اكتشافها من خلال التمعن من جانب واحد فقط.
أصبح تشجيع الأبحاث متعددة التخصصات (interdisciplinary) والتي تبحث نفس الظواهر من مناظير مختلفة مطلبا أساسيا كلما تعقدت الحياة وازدادت كمية المتغيرات والمعلومات المتوافرة. بدلا من البحث داخل التخصص الواحد أصبح هناك توجهات بحثية للإجابة عن تساؤلات معينة مثل: «كيف يمكن لبيئاتنا أن تتجاوب مع الإنسان؟». سؤال عام لا ينتمي صراحة إلى تخصص واحد ولكن تحت مظلته يمكننا البحث عن إجابات في تخصصات متعددة.
أحد الأمثلة المهمة والمعروفة لمراكز الأبحاث التي تعتمد على تعدد التخصصات هو (MIT Media Lab) وهو مختبر أبحاث متعدد التخصصات في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في الولايات المتحدة الأمريكية تأسس عام ١٩٨٥. يتناول هذا المختبر أبحاثا في ملتقى العلوم وذلك بين تخصصات التكنولوجيا والوسائط المتعددة والعلوم والفن والتصميم. وفي أماكن التقائها تنشأ علوم جديدة مثل الحوسبة الوجدانية وعلم الأعصاب الاصطناعي والبيئات المتجاوبة وغيرها الكثير. أما العاملون في هذا المختبر فينتمون لتخصصات متنوعة منها العمارة وعلوم الحاسب الآلي والموسيقى والوسائط المتعددة والروبوتات والتصميم. مشاريعهم متنوعة وتشمل على سبيل المثال مشروعا يبحث كيفية توجيه دودة القز لتبني شكلا معماريا من خلال توجيه الضوء أو السيارات الصغيرة للمدن وغيرها. تقريبا كامل دعم الأبحاث المالي يأتي من القطاع الخاص على هيئة رعاة يحصلون على مزايا وليس من خلال توجيه هؤلاء الرعاة للأبحاث بشكل دقيق وتحديد المشاريع البحثية. هناك تصنع المعرفة وتتعدى الحدود والتوقعات لتنتج تقنيات وحلولا جديدة لتحديات العصر. أتيت بمركز أبحاث متعدد التخصصات مثل الـ (MIT Media Lab) وأنا أعلم أن غالبية الجامعات الأمريكية لا تملك مركزا ينافسه ولكن من باب النظر لمن لهم الريادة في هذا المجال لنتبنى قدوة جديرة.
والسؤال المعهود: أين نحن من كل هذا؟ ما زالت الأبحاث العلمية لدى الجامعات السعودية -إلا ما ندر- تندرج تحت تخصص واحد واضح المعالم، ولا يقترب باحث من حدود علمه خوفا من عدم احتساب البحث للترقية. أصبحت الترقية التي يفترض أن تكافئ عضو هيئة التدريس على أبحاث محورية ومفيدة عائقا للبحث العلمي، لأن ما ينشر خارج التخصص لا يحتسب عند بعض الجامعات. حتى عندما يتم نشر بحث علمي في مجلة علمية تنشر بحوثا في مجالات متعددة قد نفاجأ بعدم قبول البحث للترقية. أسمع من زملائي تصنيفا محزنا عندما يتكلمون عن أبحاثهم فيتم تقسيمها إلى «بحوث للترقية»، يقولها خجلا، وأخرى تنتمي لشغفه البحثي الفعلي. الأولى تذكر على عجالة والثانية ينال من خلالها تقدير زملائه على مستوى دولي ولكنها لا تطابق مواصفات أثرية.
للعلوم حدود. حدود يدافع عنها البعض بشراسة نتوقعها على حدود جغرافية لدولة وليس على حدود علم. متى تنصف اللوائح والأنظمة والإجراءات الداخلية للجامعات الباحثين بتقدير ما يقدمونه من علم؟ ومتى نسمح لهم ونشجعهم على تعدي الحدود للمصلحة العامة؟.