خذي قلبي وعقلي واحتويني/ وغيري إن شردت لبعض حين/ تمزق في ديار الهم نبضي/ فيا أشتات كتبي جمعيني/ على زندي ينام الليل طفلا/ ويبقى السفرُ يأرجُ في يميني.
قطعة من نبضات الكاتب، الذي يرى أن حياته بين أرفف مكتبته الخاصة هي الحياة الممتدة عمقا تاريخيا، وحاضرا مائجا، ومستقبلا مأمولا، يخلص إليها من وجع المخالطة الممزوجة بالكدر، وتهدأ روحه بين صخبها الحلو، وصمتها العذب، ويناجي فيها العلماء والمبدعين عبر القرون، بل يستشرف من منظارها الثاقب مستقبل الحياة البشرية دون حدود.
المكتبة الخاصة التي جمع فيها صاحبها نوادر المطبوعات، وشيئا من المخطوطات، ونسخا من كتب لم تعد في أيدي الناس، وانتقاءاته الخاصة من معارض الكتب، ومن جولاته في آفاق الأرض، وإهداءات المؤلفين له بتوقيعاتهم الأثيرة في نفسه، وكلما قرأ كتابا زادت قيمته في نفسه، وحمل أنفاسه، وقصاصاته، وخواطره وتعليقاته، نمت معه أنسجة جسده، وكبرت في نفسه، وترعرت بين يديه، حتى تغنى بها الأولون والآخرون، وضنوا بفلذاتها على أقرب الناس إليهم، وبخلوا عن إعارتها خوف ضياع الكتاب أو تشوهه، وما أشد ألم صاحب المكتبة حين يُخرم كتاب موسوعي بأحد مجلداته، قد يشعر بأنه فقد عزيزا، وفُجع في حبيب.
مثل هذه المشاعر لا يعرفها جيل الإلكترونيات، ولا يفقهها من مكتبته أصبحت في لوح حاسوبي واحد يضم ملايين الكتب يقلبها كيف يشاء، وقد يضحك منها من لم يجرب صحبة الكتاب الورقي، وكيف يتحول إلى عضو في بدنه، وجزء من شخصيته، قد انتفخت أوراقه من كثرة الرجوع إليه، وحمل غلافه صورة أصابعه من شدة إمساكه به!!
لقد شهدت بعيني مشهدا يستحق التسجيل التأريخي، حين زرت مع أخي الدكتور محمود أستاذي الشيخ أحمد بن علي آل الشيخ مبارك في آخر أيامه في بيته في الأحساء، وكان شديد التعلق بكتاب الأمالي لأبي علي القالي، ويحفظ كثيرا من نصوصه، ورأيت كيف يغيب ذهنه بعيدا من شدة الإعياء والمرض، وبمجرد ما يقرأ ابنه الكريم أبو سيف فهد من هذا الكتاب المواضع التي يحبها، حتى تعود إليه أريحيته ووعيه، ويهتزُ له، ويردد معه، إنها علاقة روح وصحبة عمر، أليس هو القائل: فيا دار كتبي ويا خلوتي، وسلوة قلبي متى أضجر، وقرة عيني ومحبوبتي، وفخري العميق إذا أفخر، فكل حديث طريف بها، يمر الزمان وما تشعر.
ومع ازدياد عدد العلماء والمبدعين، واتساع دوائر الدراسات العليا، وتضاعف الإصدارات، وسهولة انتقاء الكتب، ازداد عدد المكتبات الخاصة في البيوت، وأصبحت ثروات ضخمة، ومن هنا يشعر الغيور على العلم، العاشق للكتاب، بأن هناك مشروعا ينتظر فارسه، فقليل من جُماع الكتب، من له أولاد يعون أهمية المكتبة الخاصة، وقليل منهم من سار مسار والده في فنه الذي تضخمت المكتبة فيه، وقد يكون فيهم واحد أو أكثر والبقية لا يعنيهم شأنها، أو لا يعرفون قدرها، ولكنهم يتعاملون معها كما يتعاملون مع المال الموروث، وربما يختلفون عليها، فيكون مصيرها إلى الإهمال، فتفقد هذه المكتبة قيمتها فور موته، وتتحول إلى مستودع تعبث به (العثة)، وتغيب في زواياه المظلمة ذخائر الكتب، ونفائس المعلومات عن أعين الباحثين، وتغيب أجور دائمة موفورة لو أنها أتيحت لطلاب العلم ورواده.
حتى الجامعات لم يعد بعضها يرحب بالمكتبات الخاصة، لعدم توافر المكان أو من يعتني بها، أو لأي سبب آخر، ويصعب على كل صاحب مكتبة خاصة أن يجعل لها مكانا عاما يرتاده الناس، ويصعب على نفسه أن يتراءى مستقبلها وهي مهملة، فقدت نبضها مع آخر قطرة من روحه.
فلماذا لا تنهض جمعية خاصة بالمكتبات الخاصة، وتُوقف عليها الأوقاف، ويتاح لمن أراد أن ينقل إليها مكتبته بشروط تضمن حقوق الجمعية وحقوق صاحب المكتبة التي لا تعدو الاهتمام بها وبقاء خصوصيتها حاملة اسمه، على أن تكون حقا مكتبة ذات خصوصية وقيمة.
أتوقع أن يتسابق أهل الخير إلى دعم هذا العمل، لأنه مما يبقى أجره للمؤمن: صدقة جارية، وعلم ينتفع به، كما أتوقع أن تكثر وصايا أصحاب المكتبات الخاصة أن تنقل مكتباتهم أو يهبوها إلى تلك المكتبة الضخمة التي تكونت من عشرات المكتبات المنتقاة بعناية فائقة، وذوائق مختلفة.