ظلت المملكة على مدى تاريخها تحتفظ مع لبنان بعلاقات أخوية خاصة، وترى فيه الأنموذج الأمثل للتعايش السلمي بين مكوناته المختلفة ثقافيا ودينيا وطائفيا، مما جعل منه في مرحلة ما المنصة الحضارية الأميز في الوطن العربي والتي يمكن أن تسوق الثقافة العربية والقيم العربية للآخرين، قبل أن تتسلل إلى ساحته بعض الأيادي المشبوهة التي تريد أن تتخذ منه ساحة أمامية لمغامراتها الطائشة وعلى حساب مكوناته، مستغلة انفتاح نظامه، وموقعه الجغرافي على ناصية المتوسط، لاستخدامه كنقطة انطلاق للتمدد إلى المنطقة تحت غطاء دعم المقاومة ومواجهة إسرائيل، والتي انطلت على البعض للأسف قبل أن تكشف الثورة السورية المؤامرة المبيتة بارتداد سلاح حزب الله الذي مولته إيران إلى صدر الشقيق عوضا عن أن يبقى مصوبا من بوابة فاطمة باتجاه حيفا وما بعد حيفا كما كان يزعم أمينه العام.
لم تترك المملكة في لبنان ولدى اللبنانيين إلا وديعة واحدة، وهي احتضانه، والوقوف إلى جانب شعبه بمختلف فئاته في الملمات، وتعمير ما خربته أيادي الآخرين فيه، وإغاثة أبنائه الذين وقفت منهم على مسافة واحدة، وصولا إلى انتشاله من حربه الأهلية المدمرة عبر مؤتمر الطائف 1979م، وإعادة اعماره بعيدا عن كل الحسابات سوى حساب الأخوة والعروبة، حيث لم تساوم في مواقفها منه على أي ثمن كان، وهو ما يشهد به كافة اللبنانيين المنصفين حتى في حاضنة الحزب في الضاحية، فيما ترك المتداخلون فيه من الأطراف الأخرى مئات الودائع، فترك نظام الأسد فيه تغولات غازي كنعان ورستم غزالي، فيما وضعت إيران وديعتها الأنكى عبر تسليح فصيل واحد لتسلطه على رقاب اللبنانيين، وتختطف به الدولة لتفرغ كرسي الرئاسة فيه لما يزيد على العامين بغية فرض شروطها، ولا يزال مسلسل العبث الإيراني في لبنان قائما حتى اللحظة حيث يصل علاء الدين بروجردي رئيس الشؤون الخارجية في البرلمان الإيراني إلى بيروت عشية بدء زيارة العماد ميشيل عون إلى الرياض، وإعادة الحديث في بيروت مجددا عن تلك الأسطوانة المشروخة إزاء استعداد نظام طهران تسليح الجيش اللبناني رغم الحظر الدولي، فقط للتهويش على الزيارة التي غصت بها إيران بالتأكيد، لأن اتخاذ الرياض كوجهة أولى للرئيس اللبناني بعد انتخابه لا بد وأن يشكل لطمة قاسية لها، وهي التي توهمت أن رعاية وكيلها الحصري في لبنان لانتخابه سيجعله رهن إشارتها، غير أن الكثير من المراقبين يعتقدون أن الجنرال عون بكاريزميته وبما يمثله من حيثيات، إلى جانب حرصه على انجاح فترته الرئاسية، ولمعرفته بموقع الرياض، ودورها الحيوي والبناء في بلاده لا يمكن أن يخضع لأي ابتزاز، خاصة وأنه يعي تماما أن لبنان لا يمكن أن يستقيم شأنه بعيدا عن حضنه العربي.
لذلك يبقى السؤال الأهم ومن خلال اختيار الرياض محطة أولى لأول زيارة رسمية لفخامته بعد انتخابه، وبما تحمله من دلالات، ورسائل ضمنية في غاية الأهمية هو: هل يستطيع العماد عون إعادة لبنان إلى حاضنته العربية، هذا ما ستجيب عنه إرادة اللبنانيين أنفسهم أولا، ثم مباحثات فخامته مع خادم الحرمين الشريفين - يحفظه الله - والمسؤولين السعوديين والذين يحتفظون للبنان بالكثير الكثير من الود، والحرص على النأي به عن المخاطر.