تعددت نظريات التربية والإرشاد الزواجي بتعدد العلماء والباحثين، ولا تزال أضابيرهم تقذف بالجديد، وما من منهج بشري إلا يعتريه نقص ويحتاج إلى مراجعة، لقد تتبعت عددا كبيرا من البحوث، ودرست في الجامعات، ولازمت المختصين في قاعات التدريب، وحُبِّب إليَّ أن أقرأ وأطلع خارج دوائر الأكاديميات حول الأسرة وعلاقاتها ما أكمل عشرين عاما حتى كتابة هذه الأسطر، وصرتُ أبحث عن المعلومة الجديدة، وأجمع ما يصدر من الكتب، وأتتبع المقالات البديعة، وأفرح بالنتائج البحثية الرقمية بالذات، وسخرتُ ذلك كله للإرشاد الأسري بكل تصنيفاته ومساراته؛ الإنمائية والوقائية والعلاجية، وبكل الطرق الجماعية والفردية، والوسائل المتاحة؛ المرئية والمسموعة والمقروءة، ووجدت في الورش العلمية فرصا أخرى لتنمية الفكرة، والوصول إلى ما يقدح زنادَ العقول الممتلئة باختصاصها، ولا سيما تلك التي جعلت همَّها تشخيص ما يجدُّ على الأسرة في المجتمع المحلي، وتحليل الظواهر التي تلبستها، ومحاولة وضع الحلول الناجعة لها. وفي هذه الرحلة المبهجة، تيقنتُ وآمنتُ بأن الأسرة البشرية لن تستقرَّ ولن تسكنَ ولن تنموَ ولن تبدع في توازن كامل إلا إذا اتخذت من السيرة النبوية منهاجا لها في بناء العلاقات، وصيانتها، وثباتها، وتنميتها، واستثمارها. كل مسلم يأخذ بقول الله تعالى: «لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا» [سورة الأحزاب 33/21]، في عباداته المحضة، مؤتمرا بقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «صلوا كما رأيتموني أصلي»، [رواه البخاري]، وقوله: «خذوا عني مناسككم» [صحيح]، أليست هذه الآيات والأحاديث تستجلب في سياقها أيضا: «خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأهلِهِ وأنا خَيْرُكُمْ لأهلِي» [حسن غريب صحيح]. إذن، فالتأسي بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليس في إطار واحد من أُطر الحياة، وإنما هو اقتداء كامل بكل مساراتها حتى حوافها، وبكل سماواتها حتى أعماقها، ومن أبرز ما ينبغي الاستنان به هو الإجابة عن هذا السؤال المهم: كيف عاش الرسول القدوة مع زوجاته، ومع أولاده، وكيف عاملهم، وكيف رباهم، وما نتائج ذلك كله؟ وماذا قال الحبيب عن العلاقات الأسرية مستنا بالكتاب المبين، ومرشدا أمته لما يجعل المسلم يهنأ بين أهله، وليس يعيش فقط أو يتعايش. ولذلك تأتي الآيات الكريمة لتحدد الهدف الذي ينبغي أن ينشده ويصل إليه: «مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ» [سورة النحل 16/97]، ولعلك تلاحظ كيف أتى بالذكر والأنثى حين ذكر الحياة الطيبة، التي ـ غالبا ـ لا تأتي إلا بسكن أحدهما للآخر: «وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» [سورة الروم 30/21]، وكل الذين (يمشُّون الحياة) كما يعبرون عن ذلك؛ راضين بالوضع المتدني من الحياة الأسرية الكريمة، يفتقدون تلك الروعة والجمال والسعادة التي أرادها لهم خالقهم، في مثل قوله سبحانه: «وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا» [سورة الفرقان 25/74].
مسانيد الآل والصحب تزخر بألوف الأحاديث والمواقف النبوية بينه وبين أفراد أسرته من زوج وولد، يقف الباحث أمامها مبهورا مذهولا، تتساقط بين يدي عقله عشرات النظريات الإرشادية التي تعبت في الوصول إليها المعامل والتجارب والعقول الكبيرة، لقد قال حقائقها الرسول العظيم ـ صلى الله عليه وسلم ـ قبل خمسة عشر قرنا، وعاش نتائجها حياة كريمة مُطمئنة، وترك فتاتها وأخطاءها لتجارب البشر، فهم يحاولون فيصيبون كبد الحقيقة مرة، ويخطئون مرة، لكن الذي لا ينطق عن الهوى ليس في حياته غير الحق الذي أيده الله به.
السؤال الذي يريد السياق هنا أن يصل إليه هو: هل كُتبت السيرة النبوية الكريمة من منظور أسري، أم ظلت متفرقة في الكتب، ما بين إشارات في قديمها، ومحاولات فردية غير مكتملة في حديثها؟
كتابة السيرة النبوية ليست جمعا للأحاديث فقط، بل هي أحداث متسلسلة وفق منهجية علمية، وتوثيق صارت تعين عليه جهود علماء السنة المطهرة في تنقيحها وتبويبها والحكم على أحاديثها، فمن سينبري لها من أمة القدوة محمد؟