ليس الفقر ألا يوجد بيد الإنسان مال، وليس الغنى توفر المال بين يديه.. وكم من غني فقير بسبب شحه وهلعه وجشعه وطمعه، وكم من فقير غني بسب رضاه وقناعته وكرم نفسه.. وكما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ليس الغنى عن كثرة العرَض، إنما الغنى غنى النفس». و«العرَض» هو المال من غير النقدين كالزروع والمراكب والدور والشركات وغيرها.
مرة أتى فقير عفيف محتاج لبيت الشيخ صالح الراجحي - رحمه الله -، وكان وقت صلاة الظهر فذكروا له أنه بالمسجد فذهب وصلى معه بمسجده، فلما خلص من الصلاة وخرج تبعه وسلم عليه، فبادره الشيخ عازما له على الغداء -وكانت نيته طلب سلفة ٣ آلاف ريال- فوافق على وجبة الغداء حياء منه، فلما دخل المجلس كان فيه أصحاب الشيخ وعددهم محدود، ودار بينهم حديث، ثم تمت بيعة عقار عالي القيمة، فطلب الشيخ صالح إغلاق الباب وإحصاء الحاضرين؛ لكي يقسم لهم من السعي فكان نصيب الفقير «المعزوم» ١٠٠ ألف ريال، فذهل الفقير العفيف، وشكر الله ثم شكر الشيخ صالح على ذلك، وهذا الحدث يظهر حسن التعامل وغنى النفوس وإكرامها وعدم إذلالها. ذكرني هذا الحدث بالقصة التي ترويها كتب الأدب والسير، أنه استدعى أحدُ الخلفاءِ العلماءَ والشعراءَ، فصادفهم شاعر فقير بيده جرّة فارغة ذاهباً إلى البحر ليملأها ماء فتبعهم إلى أن وصلوا إلى دار الخلافة، فبالغ الخليفة في إكرامهم والإنعام عليهم، ولما رأى الرجل والجرّة على كتفه ونظر إلى ثيابه الرّثة قال: من أنت؟ وما حاجتك؟ فأنشد الرجل:
ولما رأيتُ القوم شدوا رحالهم
إلى بحرِك الطَّامي أتيتُ بِجرتّي
فقال الخليفة: املأوا له الجّرة ذهباً وفضّة.
فحسده بعض الحاضرين وقال: هذا فقير مجنون لا يعرف قيمة هذا المال، وربّما أتلفه وضيّعه. فقال الخليفة: هو ماله يفعل به ما يشاء، فمُلئت له جرّته ذهباً، وخرج إلى الباب ففرّق المال لجميع الفقراء، وبلغ الخليفة ذلك، فاستدعاه وسأله على ذلك فقال:
يجود علينا الخيرون بمالهم
ونحن بمال الخيرين نجود
فأعجب الخليفة بجوابه، وأمر أن تُملأ جرّتُه عشر مرّات، وقال: الحسنة بعشر أمثالها
فقال الشاعر الأبيات التالية:
الناس للناس ما دام الوفاء بهم
والعسر واليسر أوقات وساعات
وأكرم الناس ما بين الورى رجل
تقضى على يده للناس حاجات
ﻻ تقطعن يد المعرف عن أحــد
مـا دمـت تـقدر والأيـام تـــارات
واذكر فضيلة صنع الله إذ جعلت
إليك ﻻ لك عند الناس حاجـــات
فمات قوم وما مــاتت فضائلهم
وعاش قوم وهم في الناس أموات