عند ما تتوجه باحترام «المريد الصوفي» إلى الباب العالي للسيدة الفلسفة وتسألها: ما معنى الإرادة؟ فكن على استعداد لأن يسرع الصداع إلى رأسك والأرق إلى عينيك.. فمنذ الفلاسفة السفسطائيين في القرن الخامس «ق.م» مرورا بالمعتزلة والفلاسفة المسلمين من بعدهم، وحتى يومنا هذا.. كانت الإرادة البشرية بؤرة لتشعب الآراء، بل لتناقضاتها، مع اختلاف المنطلقات: فالسفسطائيون، لأنهم وثنيون، كانت فلسفتهم إنسانية خالصة.. أما المعتزلة فكان «التوحيد» منطلقهم، لذا كان توجههم لاهوتيا.
كان الفارابي أوسع الفلاسفة المسلمين في تناول الإرادة، فقد فرق بينها وبين الاختيار، فالإرادة «نزوع» أما الاختيار فهو «روية» وكان متأثرا بأرسطو الذي ربط مفهوم الإرادة بالاختيار «المتعمد».
نخلص من هذا كله الى السؤال التالي: أين نحن الآن، في عالمنا العربي كله، من الإرادة ومن الاختيار ومن جذرهما الذي هو الحرية؟ ذلك لأن آراء الفلاسفة المسلمين وقبلهم المعتزلة ذهبت أدراج الرياح فلم يشعر بها المجتمع وبقيت إرادته في يد غيره.
أعرف أني أسأل من في أذنيه وقر وهو التاريخ، حين أسأل عن السبب، فقد كان تاريخا لا سلطة فيه إلا لرئيس القبيلة، أو الحاكم بأمر الله أو المجتمع المغفل والمضلل.
تاريخنا كله لم يعرف للفرد إرادة مستقلة أو اختيارا حرا، لقد سلب الحاكم بأمر الله أو التخلف الاجتماعي تلك الإرادة، وإذا أردت شاهدا على ذلك فاقرأ ما تيسر لك من هذا التاريخ فسوف تولي فارا وتمتلئ منه رعبا.
هذا ابن عمي في دمشق خليفة
لو «شئت» قادكم إلي قطينا
هذا ما قاله جرير وحين سمعه الخليفة في دمشق شمر عن نوازعه «الديمقراطية» قائلا: «والله لو قال لو «شاء» لسقتهم إليه».
أرأيت.. المشيئة للحاكم بأمر الله فقط، وكان خطأ الشاعر العاثر أنه نسب المشيئة إلى نفسه، ولو نسبها للخليفة.. لقاد قبيلة بكاملها إليه خدما «رجالا ونساء وأطفالا» ومآرب أخرى، ما هذا؟
درجنا على الافتخار بمواقف ترينا أن إرادة فرد واحد هي القانون، وهي القضاء، وهي «الإرادة العامة» انظر تعبير «فضحك وعفا عنه» فقد يكون هذا المعفو عنه مجرما مضرا بالمجتمع كله، ولكن ضحكه من الإرادة العليا وهبته الطهارة والعدل والحياة؟
هل هذا تاريخ، أم هو كما قالت الشاعرة فوزية أبو خالد «طوفان لم نحتط له»؟.