سألتني إحدى الإعلاميات عن المرأة الليبية، وركزت في سؤالها على من قالت: إنه طالما اثارت استغرابها، وفضولها: أي قصة النساء اللائي خدمن في القطاع العسكري كمجندات، وحارسات شخصيات للعقيد القذافي.
هذا السؤال أعادني إلى العامين اللذين قضيتهما في مدينة طرابلس، فعندما كنت أود الانتقال من وسط المدينة إلى الجزء الشمالي الغربي منها، حيث يوجد عدد من الأحياء التي توصف بانها راقية.
كان يقع في منتصف الطريق مبنى نصف محترق، وتميزه أسواره العالية نوعاً ما وكنت أستفسر في كل مرة عن ذلك المبنى اللافت وكان مرافقي يخبرني دائماً، أنه مبنى «الكلية العسكرية للبنات».
المهم إجابتي للسائلة الفاضلة يمكن النظر اليه في اطارين الاول: هو الاطار التقليدي للمرأة العربية في بيئة شديدة المحافظة، واعني ان المرأة الطرابلسية هي المرأة العربية في نواكشوط،والرياض أو الدوحة، مع فوارق بسيطة.
اما الاطار الثاني: فيتمحور نظرنا اليه في امرأة أُنتجت لزمن خاص، فرضته ضرورات السلطة والفكرة العامة التي كانت تدار بها البلاد، القائمة على ما يسمى الفكر الثوري، الذي يولد الانسان الثوري بغض النظر عن جنسه ولونه. هذه الرؤى انُشئت لها كلية خاصة في العام ١٩٧٩م كان البعض من المتحمسين لهذه الفكرة يفاخر عند الحديث الى وسائل الإعلام الاجنبية بانها أول كلية خاصة بعسكرة المرأة في التاريخ المعاصر، تعلم المرأة الحياة العسكرية كونها عضوا ناشطا، وفاعلا في المجتمع الذي كان يوصف بأنه جماهيري. تلتحق بها الطالبة العربية الليبية بعد الانتهاء من مرحلة الثانوية العامة، وهي تحوي في مناهجها التدريبات العملية العسكرية، علاوة على الصرامة التي تميز سلك الجندية، بالاضافة الى مواد ومعارف نظرية أخرى. وتقضي الطالبات في هذا الجو عامين دراسيين، بعدها يبدأن الخدمة في قطاعات الخدمة العسكرية، أو يخترن الانضمام الى مسار الحارسات الشخصيات بمعنى ان يهبن انفسهن عن طريق التضحية بالحياة الطبيعية للمرأة بان يكن في خدمة الثورة وحماية القائد.
ويحكى الكثير عن هذا المسار والعمل فيه والمصاعب التي تعترضه، وجل من تحدث عن هذه الخدمة في ليبيا في ظل النظام السابق يؤكد ان الجميع يتحدث بلغة كانت تعرف باللغة الثورية أو اللغة الوطنية، وهي لغة تلامس عموميات وتقفز على حقائق ووقائع في حياة الناس وبيئتهم وربما تتعارض في كثير من الأحيان مع الانساق القيمية والاجتماعية التي تسير عمل المجموع الصامت. وكان يقال على سبيل المثال: الحارسات لم يكن يحرسن الكيان الفيزيائي لمعمر القذافي أي شخصه ولحمه وشحمه، انما تحرس الواحدة منهن وتتشرف بتلك الحراسة فكر الرجل والثورة ودولة الجماهير.
وللحقيقة وحسب من بحث في موضوع الحارسات بعمق يمكن الاستشفاف وببساطة ان كل تلك السلوكيات كانت غريبة في مجتمع محافظ، وان حقيقة الحياة العسكرية التي تقدمها الكلية العسكرية للبنات الليبيات ليست الا تغذية ايديولوجية يتصدر فيها الكتاب الأخضر بأطروحاته التي تنظر لرؤية عالمية جديدة.
ومن التخريجات التي نقلها بعض المصادر في حياة القذافي: أن السيدة والدته كانت محاربة، بل كانت رامية سهام بارعة، واكثر من ذلك كانت زعيمة قبيلتها.
ويذهب البعض الى هذا الشغف بعسكرة المرأة، واقحامها في دور طليعي يخص الثورة، والمجتمع، والقيادة. انه متأت من غرام القذافي الخاص بما يعرف بسيرة الأمازونيات المقاتلات وهو شعب أسطوري رددته مثيولوجيا عدد من الشعوب والحضارات تقوم فكرته الرئيسة على شعب من المحاربات اللاتي تخلين عن اثدائهن بقطعها، لكي لا تشكل لهن عائقاً في حال استخدام القوس في النزال مع الخصوم.
الخطاب العام والمتعلق بالتنظير لحالة المجتمع الجماهيري كان دائما يصيب الجميع بالدوار، ويحيل - في أحسن الحالات - الى اشخاص يتحدثون في أمور غامضة، وسرية، وهي بكل تأكيد كذلك في منطقتنا العربية خصوصا عندما يتعلق الوضع بالحديث عن المرأة، ودورها في ادارة الحياة العامة.
وحتى النماذج التي خاضت هذه التجربة، واتيحت لهن أو لبعضهن الفرصة للحديث عن تجربتهن كانت مقولاتهن تأتي متضاربة، وتكرر عبارات عامة من قبيل ما يسمى اللغة الوطنية، أو المفرغة من المعنى، المهم انهن كن يقمن بدور مطلوب منهن وهو محاولة تجسيد دور جديد للمرأة الليبية، كما يؤطرها النظام الجماهيري في دوائره الخاصة وإعلامه الخاص.
ومما كان لافتاً في الظهور الإعلامي والرسمي للعقيد القذافي انه كان دائما مصحوبا بحراسات شخصية من النساء فقط، او من يسمين في بعض الكتابات الإعلامية قبل الثورة «الراهبات» كناية عن تخليهن طواعية عن الحياة الطبيعية المعروفة للجميع، اخلاصا للثورة، وللقيادة.
كانت صورهن وهن يحطن بالعقيد القذافي تثير الفضول، وحتى في أسفاره البعيدة، ولقاءاته بزعماء الدول، أو عندما يسير وسط الحشود، ويلتحم بالناس، كان الجدار الاول الذي يحميه ويراقب كل سكناته جدار من الحارسات. ومن الاشياء التي كانت غريبة بالنسبة لي حول تلك الفترة، من حياة ليبيا وشعبها ان بعض المصادر تذكر ان مسألة حماية القائد خاصة بعد تزايد الاخطار الدولية التي تناصبه العداء كان يعتبر شرفاً كبيراً لكل الليبيين في بيئتهم التقليدية القبلية، وانه امر يتنافس فيه الناس، الى درجة ان هناك من ينقل ان كل منطقة أو قبيلة، أو جماعة من السكان كانت تقدم عددا من الافراد ممثلين لها ليس في برلمان أو في مجلس تشريعي، بل في نظام حماية وحراسة مع غيرهم للقائد. وفيما يتعلق ببروز الدور النسائي في عملية الحماية المباشرة للقائد تردد في تلك الفترة قول حاول مطلقوه ان يمنحوه مسحة علمية أو قريبة من ذلك تقوم على فرضية ان إحساس المرأة بالخطر يفوق إحساس الرجل، كونها - كأنثى - تتمتع بحاسة سادسة بشأن الحماية، والمراقبة.
هذه الميزة أو الخاصية يقال: إنها تنقص الرجل الذي أوتي القوة الظاهرة، أما القوة الداخلية فهي موجودة لدى المرأة فقط.
من مقولات القذافي حول المرأة، وزيها: إن الذين يعرون المرأة، متساوون مع الذين يصرون على تغطيتها، لانهم جميعا ينظرون اليها على انها «جسد» أو سلعة، بينما منطوق النظرية الجماهيرية الذي تتحرك من خلاله المرأة يرى انها «عقل». من الأمور اللافتة وخلال ما يقارب العامين لم أر في شوارع طرابلس امرأة تلبس الزي العسكري، وحتى أخبار من اشتهرن كحارسات في الزمن الماضي كانت تملأ مكتبات طرابلس وتتحدث عنهن الكتب بصورة سلبية وتوثق كثيرا من القصص التي فيها كثير مما لا يذكر. في مرات كثيرة حينما كنت ارتاد بعض الأحياء الشعبية أو السوق البلدي في طرابلس العتيقة كنت أرى السيدات الليبيات بلباس طبيعي يغلب عليه الاحتشام، وتبقى الصورة التي لا تنسى للسيدات الليبيات الطرابلسيات اللاتي حافظن على ارتداء الفرشية، وهي قطعة من القماش الابيض تلف به المرأة بدنها وتغطي بطرفه جزءا من رأسها ووجهها. الفرشية أو السفساري - كما يعرف في بعض بلدان المغرب العربي - كساء وغطاء وجمال بشري واجتماعي وإنساني.
* مستشار وباحث في العلاقات الدولية