قرابة ألف رجل وامرأة يحتشدون في فندق ردس كارلتون الرياض؛ ليطلقوا حمَامَات المستقبل الوضيء للعمل الخيري في وطن الخير المملكة العربية السعودية، وبشائر النماء في زمن الحروب والنضوب تؤكد أن مقدرات الوطن ليست محصورة في النفط، بل هي هناك في العنصر البشري المؤمن بربه المخلص لدينه المحب لوطنه، حيث يستحيل التراب في كفيه المتوضئتين ذهبا يكاد بريقه يذهب بالأبصار.
حين تتطلع رؤيتنا الوطنية لمضاعفة الجهات غير الربحية، ونشر ثقافة التطوع لنبلغ مليون متطوع كل عام، فمعنى ذلك أننا نستهدف أن نصل إلى مضاعفة الإنتاج المحلي بالإمكانات الموجودة مسبقا، التي لم تكن فاعلة بما يكفي لاستخراج الألماس القابع في داخلها.
لم يكن للعمل الخيري أساس علمي يقوم عليه، ولا مؤسسات تُعنى بتجويده، ولا أبحاث تعظم ثمراته، ولا خبراء يقودون دفته باقتدار، ولا خطط إستراتيجية ولا حتى تشغيلية تستثمر الجهد والوقت والمال بطاقاتها الكاملة، بل كان يعمل بدوافع شرعية محفزة، ونفوس كريمة تربت على حب خدمة الآخرين، ومثل هذا له بركة على العمل وأثر دائم على المستفيد، ولكنه يبقى محدود المساحة، لا يخلو من هدر في الجهد والمال والوقت، ويمكن أن يتضاعف نتاجه لو أنه حُفَّ بما نجده اليوم من اهتمام بالغ بتحسين أدائه وتميزه المؤسسي، فقد نشأ ما لا يقل عن مئة مؤسسة وسيطة هدفها هذا القطاع الحيوي الذي تعتمد عليه الدول الكبرى والمتقدمة ليكون رافدا قويا لاقتصادها، فضلا عن الخدمات الاجتماعية والإعلامية التي ينهض بها، ويخفف عنها أحمالا ثقالا.
ويأتي منتدى تطوير القطاع غير الربحي في نسخته السادسة، منطلقا من جامعة الملك فهد للبترول والمعادن ممثلة في مركز التميز لتطوير المؤسسات غير الربحية، في شراكة بديعة مع وزارة العمل والتنمية الاجتماعية؛ ليفتح آفاقا جديدة في ظل رؤية المملكة 2030، مستفيدا من عدد من الخبراء الدوليين، متناولا ثلاثة مُمكِّنات أصيلة؛ لتوسيع أثر القطاع غير الربحي، هي: الإنسان.. إدارته وتأهيله، والمال.. استثماره وتوفيره واستدامته، والتنظيم الإداري.. صياغته وتفعيله، وإنما يتحقق مثل ذلك بطرح النظريات، وتحويلها إلى تطبيقات، من خلال شراكات بين المؤسسة الأهلية، والجهة الداعمة، والجهة المستفيدة.
ومن أبرز ما طرحه المنتدى قوة الاستثمار الاجتماعي، وهو قضية جديدة على العالم لا يزيد عمرها على بضع سنوات، حيث أصبح عدد من الخدمات مما كان يبذل للمقتدرين من المؤسسات الخيرية والاجتماعية مجانا، يمكن أن يقدم بشكل أفضل وأكثر جودة، وتأخذ الجهة الخيرية عنه مقابلا ماديا، وبهذا تستطيع أن تستديم عملها، وتستثمر إمكاناتها، وطاقاتها البشرية المتميزة.
ولو عقدنا موازنة بين الاستثمار الاجتماعي والوقف الخيري، لوجدنا أن الوقف الخيري يمتاز بالثبات وقلة الجهد، والاستثمار يمتاز بالدخل المرتفع الذي قد يصل إلى ثلاثة أو أربعة أضعاف دخل الوقف، وإن كان أكثر جهدا. ولكن هناك فارقا رائعا يجعل الاستثمار يتقدم على الوقف وهو أن الوقف غالبا لا يقدم خدمة للمجتمع سوى ما يقدمها أي مستثمر عقاري، بينما الاستثمار الاجتماعي يقدم خدماته رفيعة المستوى، التي تحمل رسالة المؤسسة الخيرية الخاصة التي من أجلها نشأت، وبهذا يستديم موارده مما يقدمه من خدماته.
ليس أمام الجهات الخيرية إلا أن تعمل على هذا الأساس، الحوكمة، والشفافية، والمأسسة، والاستدامة، وبهذه الرباعية المتعاضدة والمتكاملة يمكن أن تنجح في تحقيق أهدافها السامية.
ومما يجب أن يقال هنا: إن الشراكات المجتمعية التي شاع الحديث عنها في عدد من المؤسسات الكبرى في بلادنا، وجعلتها لها شعارات وضمنتها رؤيتها، يجب أن تتحول إلى برامج فاعلة، وأن تمد هذه الجهات الحكومية والخاصة والشركات والبنوك أيديها إلى الجهات الخيرية الفاعلة، وتكوّن معها تحالفات وطنية لتحقيق الرؤى المشتركة، فالجهات التي تملك الأموال عليها أن تبذلها بسخاء، والجهات التي تملك الخبرات عليها أن تبذلها بمبادرات، والجهات التي تحتوي الفئات المستهدفة، عليها أن تمكن مؤسسات المجتمع المدني من خدمتها في كنفها وبين أسوارها. كل ذلك بعيدا عن مشاعر التفرد والإحساس الرديء بالمزاحمة، والإحساس المريض بالخوف من علو اسم على اسم، أو جني مكاسب شخصية، ففي الشراكة بركة عظيمة، والعمل الأنقى هو الأبقى.