• تشرفت بالمشاركة في البرنامج التدريبي المكثف التي اقامته الامانة العامة لمجلس التعاون لدول الخليج بالتعاون مع كلية أوروبا College of Europe في مدينة بروج البلجيكية، يوم الاحد الماضي (23 اكتوبر) عن «آليات عمل هيئات ومؤسسات الاتحاد الأوروبي». وتعتبر كلية اوروبا واحدة من أعرق وأقدم المؤسسات الجامعية في العالم المختصة بالدراسات الأوروبية على مستوى الدراسات العليا، حيث تأسست سنة 1949، في مؤتمر لاهاي في أعقاب الحرب العالمية الثانية، على أيدي عدد من الآباء المؤسسين للاتحاد الأوروبي امثال ألتشيدي دي غاسبيري، أول رئيس وزراء إيطالي بعد الحرب العالمية الثانية والذي استطاع تحويل إيطاليا من مملكة إلى جمهورية، ونستون تشرشل رئيس وزراء المملكة المتحدة وأحد أكثر الشخصيات تأثيرًا في التاريخ البريطاني، والكاتب والمؤرخ سلفادور دي مادارياغا، وذلك بهدف تعزيز «روح التضامن والتفاهم المشترك بين جميع أمم أوروبا الغربية، وتوفير تدريب للأشخاص الذين يدعمون هذه القيم» وكذلك «لتدريب نخبة من التنفيذيين من أجل أوروبا».
• وعلى مدى خمسة ايام تضمن البرنامج التدريبي بشقيه النظري والعملي الذي قدمته كلية أوروبا سلسلة محاضرات وورش عمل ومناقشات عن عمل الاتحاد الأوروبي ككيان موحد مؤلف من 28 دولة وما يضطلع به من أنشطة في مختلف المجالات. قام بهذه البرامج خبراء ومختصون بالشأن الاوروبي ابرزهم الدكتور بشارة خضر، العضو في مجموعة كبار الخبراء حول السياسة الخارجية والأمن المشترك الأوروبي في المفوضية الأوروبية، وعضو في مجموعة الحكماء في الحوار الثقافي الأوروبي-المتوسطي في الرئاسة الأوروبية، وألف العديد من الكتب والدراسات حول الاتحاد الاوروبي. واستاذي القدير الدكتور عبدالله باعبود، الخبير في شأن الاتحاد الاوروبي وهو مدير مركز دراسات الخليج، بجامعة قطر وقبل التحاقه بجامعة قطر أمضى سنوات طويلة يدرس في جامعة كامبريدج، بالمملكة المتحدة. وتربطني بالدكتور عبدالله علاقة وثيقة فقد كان الدكتور احد الذين اجازوا اطروحتي للدكتوراة، ولا اخفي عليكم انني لا ازال كلما رأيته تأتيني الراجفة تتبعها الرادفة وتتداعى علي كل الصور العصيبة للحظات المناقشة، والصمت الخام الذي خيم علي في اللحظات الاولى من المناقشة والذي بالكاد انشرح صدره وانحلت عقده، لحظات رهيبة تشيب من هولها الولدان. الا انني اكن لهذا العالم الجليل كل التقدير والاحترام، وقد استفدت كثيرا من ملاحظاته العميقة وتعليقاته القيمة. ولعله يأتي اليوم الذي تجمع فيه هذه الذكريات في سفر واحد، والتي ذكرت بعضا منها في كتابي «قناديل الذاكرة».
• في بداية البرنامج قدم الدكتور خضر عرضا مفصلا عن نشأة الاتحاد الأوروبي ومراحل تطوره وذلك من خلال العودة الى جذور المشروع الفكري للوحدة الاوروبية في اواخر القرن الثالث عشر وبداية القرن الرابع عشر الميلادي كرؤى طوباوية في اذهان المفكرين والحكماء والفلاسفة والفقهاء ورجال القانون والمصلحين الاجتماعيين وكيف تحول تدريجيا الى مشروع سياسي اسهم في بنائه مؤسسات تحظى بدعم رؤساء الدول والحكومات وقطاع كبير من النخب السياسية والاقتصادية والاجتماعية في مختلف الدول الاوروبية. ثم تحدث د. خضر عن ماهية مؤسسات الاتحاد الاوروبي وصلاحيات كل منها من خلال استعراض للقواعد المتبعة لاصدار التنظيمات والتوجيهات والتوصيات ضمن اطر الاتحاد. ثم استعرض كيفية صنع القرار السياسي الاوروبي في اطار المؤسسات الاوروبية. ثم عرج الى الحديث عن السياسة الخارجية للاتحاد في ظل التطورات الإقليمية والدولية الحالية، إضافة الى تحليل العلاقات العربية – الأوروبية خلال العقود الخمسة الأخيرة؛ منذ إبرام معاهدة روما عام 1957 وحتى اليوم وآفاقها المستقبلية. ويرى د. خضر أن جميع السياسات الأورومتوسطية، اتسمت بالتشرذم والازدواجية وعدم الاتساق.
• أما الدكتور باعبود فقد تحدث على مدى يومين عن التعاون بين الاتحاد الاوروبي ودول الخليج من خلال استعراض تطورات البيئة الامنية الاستراتيجية في منطقة الخليج. ثم الولوج الى المسار التاريخي للعلاقات الاوروبية– الخليجية وتحليل اوجه التلاقي والاختلاف في الاهداف وتوضيح السياسات التي اتبعتها كل مجموعة لتحقيق اهدافها من خلال خبراته الشخصية عن طريق مشاركاته في كثير من الاجتماعات غير الرسمية مع الاتحاد الاوروبي او من خلال مقابلاته لكثير من الدبلوماسيين الأوروبيين والخليجيين. ثم تطرق الى شرح مفصل عن مفاوضات اتفاقية التجارة الحرة منذ التوقيع على الاتفاقية الإطارية بين المجموعتين في 15 يونيو 1988م، واعتمادها من المجلس الأعلى في ديسمبر 1988م، ودخولها حيز التنفيذ في بداية عام 1990م، وصولا الى تعليق محادثات التجارة الحرة في 2010. كما عمل على استقراء انعكاس هذا التعثر لمفاوضات التجارة الحرة على العلاقات الخليجية– الاوروبية. الى جانب شرح المؤثرات الاقليمية والدولية على هذه العلاقة ومستقبل العلاقات الخليجية الاوروبية في ظل هذه التغيرات. ويرى د. باعبود ان المستجدات في المنطقة توفر فرصا لتفاعل افضل وعلاقة اقوى بين الجانبين خصوصا مع بروز ملفين حارقين طغيا على الملفات الأخرى وهما ملف الارهاب وملف اللاجئين. كما دعا في اخر الدورة الى ضرورة اطلاق مبادرات خاصة على اساس حالة بحالة مع الاتحاد الاوروبي خارج اطار الشراكة الاستراتيجية الرسمية.
• وأخيرا أود تقديم الشكر والتقدير الى الامانة العامة لمجلس التعاون على تنظيم مثل هذه الدورات العميقة والثرية والتي تعمل على صقل الخبرات الدبلوماسية لمواكبة المتغيرات السياسية، ولاكتساب المهارات اللازمة لنسج علاقات دولية تفتح آفاقا جديدة للتواصل والتعاون المشترك والتعريف اكثر بالدبلوماسية الخليجية وما حققته من نجاحات من خلال مشاركتها الفعالة مع المجتمع الدولي، ما عزز من مكانتها سواء في محيطها الإقليمي أو الخارجي. كما أود تقديم الشكر الكبير الى كلية اوروبا لإسهامها في إنجاح الدورة. وكذلك اشكر الدكتور بشارة خضر والدكتور عبدالله باعبود وبقية الخبراء للعمل على إثراء محتوى الدورة بعلمهم الغزير وخبراتهم في هذا المجال.
• سوف احاول في مقالي القادم الحديث عن الجانب العملي من البرنامج والذي ركز على المفاوضات والمحاكاة. والتي تضمنت خمسة موضوعات أساسية، هي: أساسيات التفاوض الناجح، عملية التفاوض، ومحاضرات حول تعريف المفاوضات وعملية حل المنازعات والعناصر الأساسية في نجاح المفاوضات، وسياق التفاوض والتي قدمها باقتدار المدرب Karel de Beer.
* محلل سياسي وباحث في العلاقات الدولية