من أعجب القصص التي حكاها لي زميل، احتفاظه بسند استلام ما كان يعرف بريال فلسطين، مع أغراضه الشخصية لمدة طويلة. يقول صديقي الذكي جداً، والمحافظ جداً: في منتصف سبعينيات القرن الماضي كان تلميذا في المرحلة الابتدائية، في الصف الثالث أو الرابع الابتدائي. وطُلِبَ منهم بشكل جماعي في المدرسة احضار ريال فلسطين، الذي يقدمونه طائعين كل عام. وبعد عرض الموضوع على والدته ورفعه من قِبلها إلى والده تسلم الريال. وقال: إن والده قبل أن ينقده ذلك الريال، ردد بصوت مسموع: أيه ريال موسى!! في الليلة السابقة لذهابه إلى المدرسة بالريال، ومن شدة الحرص وضعه وسط المصحف لكي لا ينساه، ولأن المصحف الشريف يرافقه للمدرسة بشكل يومي، في الصباح الباكر وقبل خروجه من المنزل وضع الريال في جيب ثوبه العلوي والذي يحتل المنطقة اليسرى من اعلى جهة الصدر، ولم يضع معه شيئا آخر تكريما وتمييزا له، ولأنه ليس معه نقود ورقية غيره، أما مصروفه اليومي فكان في مكانه المعتاد في جيب ثوبه الجانبي من الجهة اليمنى، حيث يسهل عليه ادخال يده في الجيب بطريقة آلية كلما دعت الحاجة لتفحص القطعتين المعدنيتين المكونتين من فئتين، أربعة قروش الكبيرة الثقيلة، وفئة القرش الخفيف الوزن والصغير الحجم نسبيا مقارنة بالقطعة السابقة. كانت يده تتفحص ذخيرته اليومية بشكل آلي، وخاصة بعد كل موجة ركض أو لعب تصاحبه حركة بَينيّة مع الرفاق سواء وهم في طريقهم إلى المدرسة التي كانوا يسيرون على اقدامهم قاصديها في كل المواسم والظروف، او بعد وصولهم للمدرسة وتجمعهم على شكل حلقات يلعبون ويركضون ويتقافزون في فضاءات رملية غير معبدة، ولم تزرع يوما.
قال: بدأت حصة الرياضيات، وراح يتفحص ريال فلسطين، حيث سيأتي الأستاذ موسى، الرجل النحيف الطويل الذي لم ير تلاميذه قط، وربما المدرسون حتى عينيه اللتين يخفيهما بنظارة البشاوري الصغيرة السميكة الشديدة السواد في منطقة منتصف العدسات التي تغطي عينيه، الاستاذ موسى يتحدث كثيرا ويعاقب بقسوة، ولا يسمح بالخطأ، حَفِظت منه المدرسة عددا مهولاً من أمثال الاشقاء الفلسطينيين عن طريق التلقين والترديد فقبل ان يعاقب احد المقصرين يقول مثلا، ويكرره على التلاميذ مرتين او ثلاثا، ثم يعيد طرح المثل مناصفة بين الطلاب وبينه وذلك بأن يقسم المثل إلى شطرين يقول الاول ويوعز للطلاب بإشارة من يده اليمنى التي تمسك بالعصا فيرددون بقية المثل بحماس وتشف وغضب احيانا. اول واشهر مثل حفظه طلاب المدرسة من الاستاذ موسى هو «وقع حمار الشيخ في العقبة، ما احلى الكف على الرقبة» كان نصيب الجميع وفي كل الفصول التي يزورها الاستاذ موسى ترديد المقطع الاخير لمرة او مرتين قبل ان تهوي يده النحيلة على قفا المقصر.
كان الطلاب يعرفون ان هناك ضحية في الفصول المجاورة عندما يسمعون الحناجر الصغيرة الغضة تردد في حبور مدهش «ما أحلى الكف على الرقبة» بالنسبة لشخص الاستاذ موسى لم تكن النظارة المميز الوحيد له بل كان هناك البدلة السوداء المخططة بخطوط بيضاء رفيعة جدا والتي كانت هندامه المفضل طوال العام، وكان يضيف عليها كنزة حمراء بفتحة رقبة مثلثة تحت الجاكيت في الشتاء، وغترة حمراء بأطراف يتدلى منها هدب من الاركان الثلاثة بشكل ظاهر. الاستاذ موسى بعصاه، وبدلته، ونظارته وسحنته النحيلة الحادة وصمته وتوقفه احيانا عن قول شيء كان من سوء حظ البعض هو المكلف بتحصيل ريال فلسطين دائماً، وكان يبدأ كل يوم من ايام موسم حصاد الريال، بسؤال تلاميذه، عن الريال ويروح يراجع ورقة الاسماء ليعرف من دفع ومن الذي لم يحضر الريال بعد، ثم يبدأ في التوبيخ للمتأخرين، وعقاب الذين تأخروا أكثر من اللازم كما يقدر. يقول زميلي: عندما اعطيته الريال الذي يخصني، قال كلمة اتذكرها كلما نظرت إلى الايصال الذي حصلت عليه كإثبات بالدفع حتى بعد سنوات طويل قال الاستاذ موسى كلمة واحدة ولم يزد هي: عفارم. ويضيف زميلي: إنه لم يعرف ماذا تعني تلك الكلمة التي يسمعها لأول مرة! ولكن حدسه قال: انها تعبير أكيد عن الرضا، لأنها جاءت مع تعابير جامدة من وجه الاستاذ ولم يفهم من عينيه المعنى الاخر لأن نظارة البشاوري بسوادها المركز تخفي كل شيء وراءها، والاهم ان ليس هناك ضرب، ولا توبيخ، ولا مثل يردده هو والتلاميذ شماتة به. فحمد الله، وعاد إلى مكانه، ووضع الايصال المستطيل الذي يؤكد انه في التاريخ الفلاني وصلنا من حامله مبلغ ريال عربي سعودي تبرعا لأسر مجاهدي وشهداء فلسطين. وكان هناك ختم أزرق غامق في الجهة اليسرى اسفل السند. شكل السند المستطيل وترويسة بالبسملة ثم الاشارة إلى اللجنة الشعبية لرعاية أسر ومجاهدي وشهداء فلسطين. وفي المنتصف تقريبا وبخط أغمق وأوضح طبعت عبارة ريال فلسطين.
ورقة السند بلونها الازرق الفاتح. وضعها زميلنا في المصحف بالمكان الذي وضع الريال فيه في الليلة الفائتة، آملاً ان يبارك الله هذا العمل، وتطلعا بأن يحفظ الله الشعب الفلسطيني. وبقي السند في المصحف لسنوات طوال، محافظا على جِدته وبريقه وجماله في روح الفتى الصغير، وفي علاقته الاولى بالقضية وشعاراتها واسماء تنظيماتها. وبقي يتذكر الاستاذ موسى وبذلته السوداء المخططة ونظارته البشاوري وامثاله التي كان يبدأ بإطلاقها على اسماع الطلاب وكأنه يبدأ جولة من الدبكة الفلسطينية وهو يحرك قدمه اليمنى ويحدث بها صوتا يملأ حجرة الصف جراء ضرب البلاط تحت قدمه. هي قصة ريال واحد، واستاذ واحد، واحاديث زملاء عن فلسطين التي لم تعد كما كانت.