في الثمانينيات طار قادة الاخوان المسلمين الى ايران، لتهنئة الخميني بالثورة البائسة، وطرحوا عليه عظيم الاسئلة، ظنا منهم أن الخميني يصدقهم القول، حيث باع الخميني مواقفه المبدئية من أجل السلطة، ورهن ارادة ايران لصالح الاستخبارات الدولية، وكان السؤال الاحجية: اين تقف ايران؟ هل هي اقرب للاتحاد السوفيتي ام للولايات المتحدة؟ فأجابهم الخميني: إنها لا شرقية ولا غربية، عندها رجع الاخوان مسرورين الى فنادقهم، وما ارتاحوا قليلا حتى فجعوا مما يقال حول رفض الخميني اقفال مكتب الاتصال بين المخابرات الايرانية والموساد، وزاد الطين بلة انه عين ضابط الاتصال مع اسرائيل وزيرا للدفاع في حكومته الاولى.
في التسعينيات، قالت ايران: إنها تمارس علاقاتها مع العراق، وازمته مع المجتمع الدولي بمنطق الحياد الايجابي، ولم يفهم الاسلاميون الحياد الايجابي الايراني جيدا، حيث تبين انه اتفاق باطني مع امريكا لاسقاط حكومة طالبان وحكومة صدام حسين، والسماح للطائرات الامريكية بعبور الاراضي الايرانية، لا وبل استخدام مطاراتها العسكرية.
الجلبة في البرلمان الايراني حول منح روسيا حق استخدام المطارات العسكرية، وتخصيص قاعدة همدان الجوية، التي كانت تستخدمها الطائرات الامريكية فترة حكم الشاه، جلبه ليست صادقة، بل جاءت بعد إعلان القائد العسكري الامريكي في العراق أن استخدام الاجواء العراقية تم بالتنسيق مع الادارة الامريكية، اي ان الامر تعلم به امريكا مسبقا، واما القول: إن الروس أعلنوا ذلك للاستعراض، فهذه كذبة ايرانية جديدة، فالاذن تم في بغداد اولا.
التقدير الامريكي للاستنجاد الايراني بالقاذفات العملاقة الروسية، مؤشر على الافلاس السياسي، فهذه القاذفات معروف عنها، أنها تفني البشر والحجر على نظرية السجاد الايرانية، وايران تعي جيدا أن الفشل في سوريا، يعني الفشل في طهران، ولهذا فهي تتخوف منذ فترة وتراقب الموقف والمشهد الاقليمي. فالانقلاب الفاشل في تركيا، وبمساعدة امريكية، يفيد بأن الامريكان ليسوا أصدقاء مهما كانت درجة العلاقة بهم وثيقة، وانهم لا يؤمن جانبهم، كما ان ايران بدأت ترى أن امريكا بدأت تلجأ الى لعب الاستخبارات، والانقلابات، وهي تراقب وزير الدفاع العراقي خالد العبيدي، يقلب للبرلمان والحكومة ظهر المجن، حيث بدا واضحا ان العبيدي يستند على قاعدة صلبة، جعلته في مواجهه شرسة مع النواب وكشف الفساد في العراق، في وقت تحاول ايران وميليشياتها اضعاف مؤسسة الجيش العراقي لصالح الميليشيات الطائفية.
اللافت ان الضوضاء الايرانية تعمل بنظام الريموت كنترول، من برلمان الى أحزاب وشخصيات وحرس ثوري، ووسائل إعلام وابواق خارجية، لكنها تصمت حتى لو تم تجاوز الدستور، اذا ما تكلم المرشد، فكلام المرشد بقوة القانون والدستور، لا بل اعلى من ذلك بكثير، ومن اراد ان يفقد مستقبله السياسي فليتحدث دون اتفاق او اذن مسبق بشكل يخالف توجيهات المرشد، ويكفي ان يؤكد المرشد أن ايران تقدم مزيدا من المرونة البطولية، في موقف مضاد لامريكا، لكنه يتناسى فتح ابواب ايران والمياه الدافئة في الخليج أمام روسيا.
ايران تتوافق مع روسيا ليست محبة في الروس، بل ايران على استعداد ان تتحالف مع الشيطان، وتقدم التنازلات السيادية، مقابل ان يسهم ذلك في دعم مشروعها ونفوذها في المنطقة، وهي تستخدم الروس كاداة تنظيف للعوائق التي تواجهها في المنطقة، فهي عمليا ساهمت بدعوة الروس الى سوريا، واعطتهم موطئ قدم في ايران، وهناك تلويحات لها في اليمن، وعدم ممانعة تركيا من استخدام الروس قاعدة انجيرليك، وهناك مؤشرات على احتمالية التفاهم مع مصر لولا المخاوف من ردة فعل شعبية وعسكرية مضادة، لان في ذلك تنكر لدول الخليج.
رغم ان الايرانيين لديهم حساسية من الروس تاريخيا، فقد عملت موسكو مع لندن في احتلال الاراضي الايرانية، وظلت ايران في احلك ظروفها، متمسكة بعدم منح امتيازات سيادية لدولة اجنبية، رغم الضغوط الكبيرة التي مورست على شاه ايران، الامر الذي يعني أن اقدام ايران على هذا التصرف والسلوك ليس صدفة او فرضته الظروف، او حالة استثنائية، وانما يكشف افلاس النظام في الداخل والخارج، ومخاوفها الفعلية من انهيار او تأجيج لفوضى شعبية بدأت تختمر، ويمكن ان تحدث دون انذار، وعليه فالتنازل التاريخي، يعكس حجم حالة الوهن التي تعيشها ايران.
اما علاقاتها مع واشنطن، فهي ايضا خضعت لسلسلة من التنازلات البطولية، ففي اللحظة التي تهاجم طهران واشنطن، وتتابع بقوة ما سوف تسفر عنه الانتخابات الامريكية، فان ايران استقبلت خلال الاسابيع الماضية لجنة عسكرية وامنية امريكية، حيث بدأت امريكا الاتصال بالمؤسسة العسكرية الايرانية والانفتاح عليها، في خطوة قد تشهد تعزيز قدرات الجيش الايراني، وخفض دور الحرس الثوري، وهي خطوة جاءت بالتنسيق والتيار الليبرالي الذي يرى أن ايران لن تتحول لدولة مدنية ما لم يتم ادماج الحرس الثوري في اطار المؤسسة العسكرية.
ما يمكن استنتاجه ان ايران التي ظلت طيلة 36 عاما ترفع شعارات ثورية تناقضت تماما مع ممارسة واقعية سياسية جعلتها تتجاوز عن الدستور ومبادئ الخميني وتقدم التنازلات لروسيا يؤكد أن ايران أصبحت جزءا من الاطار الاستراتيجي الروسي وتدور بفلكه، وتعمل ضمن اجنداته، وقد يكون ذلك تحولا عمليا في هذه الفترة، لكن روسيا ليست بذات القوة والتأثير التي يمكن الاعتداد بها، في عالم يتجه نحو التعددية القطبية، بعد ان تجاوز الثنائية القطبية منذ التسعينيات.
التقديرات الايرانية في هذه الخطوة الاستباقية، تؤكد أن امريكا لم تكن قريبة من حلفائها في دول الخليج، وساهمت مؤخرا بدعم انقلاب في تركيا، وانسحبت من العراق تاركة اياه للفوضى، ولم تعمل على محاربة داعش، بل تركتها تتمدد، وعليه وفي ضوء تلك المعطيات، فان ايران تجد بأن اقترابها الشديد من موسكو، قد يسهم في اضعاف الاوراق والخطط الامريكية، التي لن تكون ايران بمأمن منها، فقد تعاملت مع حليف استراتيجي ودولة مهمة في حلف الناتو بطريقة تفيد بأنها تضحي بهم لتحقيق مصالحها، وهو ما ضاعف هواجس ايران ودفع بها ناحية موسكو.
واشنطن مازالت تشعر بصدمة وتقيم ما يجري، ودول المنطقة تستقرئ الموقف في ظل ادارة امريكية بطيئة في تفاعلها وازمات المنطقة، وعليها ان تقرر وفقا لحركة مصالحها والا تنتظر والمجرب لا يجرب، وروسيا تؤكد أنها بصدد استخدام القواعد الايرانية اليوم وغدا، وتغيير القواعد الاستراتيجية في المنطقة، لا بل والمساهمة في حل مشكلاتها.