يتجه الخليجيون هذه المرة الى الهند، في رحلة بحث عن الجذور والروابط التاريخية والثقافية، هناك العديد من الدراسات الثقافية والادبية والدينية التي تؤسس لمثل هذا التفاعل، دراسات عن الرواية السعودية وبعديها الاجتماعي والثقافي، ودراسات عن الشاعر العشماوي، وأدباء المنطقة الشرقية والبحرين والامارات وعمان.
هذا التفاعل يوازيه تفاعل ثقافي ديني، حيث ينظر الهنود المسلمون على التحديد للدور المؤثر للحضارة الاسلامية في بلادهم، فإنهم مضطرون تحت وقع الثقافة الحضارية المشتركة ان يمدوا جسور العلاقات بين الهند والسعودية باعتبارها قبلة الاسلام والمسلمين، وفيها الحرمان الشريفان، ولها ولمواطنيها مكانة خاصة، غير ان هذه المكانة عمد البعض لتشويهها نتيجة الاخطاء، فمشكلة العمالة الوافدة الهندية التي حلت بتوجيهات خادم الحرمين، ما كان لها ان تظهر او تؤثر على صورة المملكة، حيث وجدتها بعض المنظمات العمالية الهندية فرصة للنيل من المملكة، رغم التعاون الكبير بين الهند والمملكة، ومن النشاط الايجابي للسفير الهندي جاويد احمد وللدكتور حفظ الرحمن، في سبيل تجاوز الازمات وتبديدها وتوضيح اسبابها للرأي العام.
في الهند يسألون عن هذه الاشكاليات وتشتكي مكاتب التوظيف بتحميلها المسؤولية، رغم ان المسؤولية التعاقدية واضحة وان الشركات يجب ان تفي بعهودها والتزاماتها القانونية او تنهيها بالطريقة القانونية دون ان يؤدي ذلك الى تشويه صورة المملكة، وابراز القضية بأنها قضية انسانية، وأن المقصود بها العمالة الهندية.
ليست هناك قصدية ضد الهنود، وهم من افضل العمالة الوافدة سجلا امنيا، كما يتحدث البعض، وهي عمالة مسالمة، وليست سلبية ومجربة، لكن البعض في الهند اراد استغلال الازمة واظهارها على غير حقيقتها، وابتزاز مكاتب التوظيف، في وقت كانت مسؤولية مكتب التوظيف تنتهي بعد العقود القانونية الموقعة والتي تلتزم بقانون العمل السعودي، وهو في الفترة الاخيرة انصف العمالة الوافدة وحفظ حقوقها، على العكس مما تحاوله بعض الجهات الاعلامية التي تبحث عن الاثارة والاساءة للعلاقات بين البلدين.
قلنا ان السعوديين يتوجهون شرقا، وان اعدادا كبيرة بدأت تتجه نحو الهند للعلاج والسياحة والاقامة والدراسة والتجارة، وان حركة استقطاب العمالة الفنية عالية المهارة ما زالت قائمة وليست في تراجع، ولكنني احذر من بعض الجهات التي تحاول تعكير صفو هذه العلاقات، وتوظيف علاقاتها لاثارة اية سلبيات ضد السعودية والهدف هو اضعاف مستويات العلاقة المتطورة بين البلدين.
نأمل ألا تشكل مشكلات العمال على طبيعة العلاقات المتطورة، وان حل هذه المشكلات ممكن، وان القيادة السعودية اكدت حرصها على تسوية مشكلات العمالة دون ابطاء او تأخير، وان تعثر بعض الشركات عن سداد رواتب العمال، لا يعني أن ذلك يمس المستوى السياسي بين البلدين والذي وصل مستويات استراتيجية، ونتوقع اذا ما احسن الهنود صنعا، ان تصبح كيرلا وبنجلور ودلهي مدنا رئيسة على قائمة السعوديين خلال السنوات القادمة.
الهند بلد متسامح وان اطل التعصب الديني مع مجيء الحكومة الحالية، لكن هذا خيار داخلي، ومع ذلك ومن منطلق محبتنا للهند، فإننا نتمنى على القادة الهنود ان يعززوا قيم التسامح بتعزيز القيم الديمقراطية، وان صيانة الامن الاجتماعي يحتاج مزيدا من الوعي بالمشكلات الحديثة التي باتت تصنع في مختبرات دولية واقليمية.
خلال زيارتي للهند حرصت على التجوال في الجامعات والتقاء الشباب الهندي وزيارة بعض المعابد والمساجد والتقاء شخصيات هندية مخالفة، ووجدت ان ثمة اجماعا كبيرا على ابقاء روح الهند الجامعة، وانهم ضد التطرف على اختلاف اشكاله وانهم لا يقفون موقفا متعصبا من اي دين، وان الحوادث الفردية لا تعبر عن الهند ولا تحول دون مضيها قدما في تحقيق اهدافها في التطور العلمي والمعرفي والاقتصادي والتفاعل الحضاري، مستفيدة من حالة التنوع الثقافي والقومي والديني.
اما مشكلات العمالة، فهي تحت السيطرة وان التدخل الرسمي كفيل بحل مختلف المشكلات، وان معالي وزير العمل ووزارة العمل حريصون كل الحرص على حقوق العمالة الوافدة وتنظيم سوق العمل، وجعله اكثر انضباطا واتساقا، ونتمنى ان يتم توضيح المشكلات بسرعة ووضوح حتى لا تصبح نهبا لوسائل الاعلام التي تتصيد في الماء العكر، والتي تبرز السلبيات ولا تحفل كثيرا بالايجابيات.
العمالة الهندية تشكل ابرز قطاعات العمالة الوافدة للمملكة، ففي المملكة ما يزيد على 70 الف طالب هندي في مدارس هندية تشرف عليها السفارة الهندية، وهناك ما لا يقل عن 2 مليون عامل في شركات وجامعات ومستشفيات، وهم يشكلون قوة عمل رئيسة في المملكة، وهناك تفضيل للعمالة الهندية عن غيرها بسبب غياب المشكلات وبسبب تواضع الهنود وقيامهم بواجباتهم حسب العقود
زيارة وزير الدولة الهندي كانت محط اهتمام سعودي، وايضا كشفت ازمة العمالة عن قوة التدخل الرسمي بفرض الحلول، لشركات كان يجب ان تنهي العقود مع عمالتها وفقا للقانون، وبما يضمن حقوقهم، لا ان تستخدمهم اداة ضغط، في وقت ظلت هذه الشركات تعامل بخصوصية، وعليها في هذه الازمات العابرة ان تتعامل هي بوفاء يعكس حجم العلاقة بين الدولة والقطاع الخاص الذي ظلت الدولة ترعاه في كل كبيرة وصغيرة، وتتدخل لصالحها عند الازمات ايضا.
هذه الازمات العابرة، تعلمنا دروسا مجانية، ففي الازمة المالية العالمية عام 2008 وقف القطاع الخاص الفلبيني لصالح الحكومة عندما رفض ان تلجأ للاقتراض الخارجي، حيث قدمت العمالة الفلبينية جزءا مما تملك، وكانت المكافأة بحجم الوفاء حيث منحت الدولة من ساهموا معها امتيازات اقتصادية خاصة، واستطاعت الفلبين تجاوز عثرتها الاقتصادية لتكتشف قوة المواطن وعلاقته بالدولة، مثلما بادر البعض من رجال الاعمال السعوديين للتعبير عن حالة الوفاء التي تربطهم بالوطن عبر تقدير ايجابي لجنودنا البواسل. اننا على قناعة تامة بأن المواطن السعودي من اكثر الشعوب وفاء واحتراما لبلده، وان لديه حصانة يتفوق بها على غيره من الشعوب جعلته بيئة غير قابلة او خصبة للاختراق الخارجي، وان من غسلت ادمغتهم، باتوا اكثر وعيا بالاحداث والازمات من قبل.
الزيارة الاخيرة لرئيس الوزراء الهندي مودي للمملكة والاتفاقيات الموقعة والميز التفضيلية، تجعلنا نبحث عن اعمدة الشراكة الاستراتيجية، وان نعزز هذه الشراكة بمزيد من التعاون والتفاعل الاقتصادي والسياسي والثقافي، فالهند في حالة صعود، وهي بلد مجاور حضاريا لنا، وبيننا مشتركات وتفاعل حضاري وانساني كبير، يؤهلنا لبناء علاقة استراتيجية قوية وراسخة ودائمة.