لي صديق شاعر عميق وحساس جدا، ويمتلك زمام اللغة، اسمه روكان الدليمي، من أهالي الفلوجة، وهو في ذات الوقت رسام غير عادي، ولكن روكان كنز يمشي على الارض، يبهرك بدماثته ورغبته في الحياة بلا تعقيد، وأبو رسل كيان إنساني متجرد، لا يحسب للمادة حسابا، ولكن وكما يقول لي دائما ان حكمته في الحياة «لا تسأل كم تأخذ وانما كم تعطي».
يحمل درجة الماجستير في اللغات، واضطرته ظروف العراق، للتنقل من اسطنبول الى سدني، وانا على ثقة انه وفي كل مدينة وكل محطة له بصمة انسانية لا تنسى، ففي استراليا، كرم من أعلى هيئة انسانية فيها، لانه كان يمارس النشاط اللامنهجي ويعلم الطلاب الرسم، دون مقابل، وكان وهو يعلمهم الرسم، يكتب تحت كل رسمة حكمة وموعظة، وكان بعضها متجسدا كتطبيق عملي، كأن يدفع رسوم الدورة عن طفل عراقي او ان يكون مقابل تعليمه الطلاب الرسم، يسجل بعض الطلاب مجانا، وكان الاستراليون معجبين بتصرفاته.
كان ذات مرة مهموما وحزينا، وله صوت غنائي شجي، وكان يجلس في ركن ركين ويغني، وكانت بحات صوته توحي بالحزن، سألوه عما يضايقه، فآثر الا يزيدهم حزنا من حزنه، غير ان طالبتين آثرتا معرفة ما يصيبه، فتحدث لهم بأن والدته ستجري بعد يومين عملية للقلب المفتوح، وهو لا يملك الكثير وكل ما لديه لا يتجاوز 2500 دولار، فقررت الطالبتان الذهاب معه الى المستشفى، وعندما بلغ الامر الطلاب الآخرين قرروا جميعا المشاركة والذهاب معه الى المستشفى.
دفع مبلغ الف دولار، قبل بدء العملية، لتتقدم بعدها الطالبات الى عمدة المدينة لمقابلته، وعرضن عليه الامر، ليتطور الى حملة انسانية واعلامية غير عادية، أظهرت معالم انسانية المجتمع، وبدأت تنهال على المستشفى المكالمات تلو المكالمات للتبرع، وعندما وجد المستشفى أن الامر انساني وتحول الى حملة شعبية، اجتمعت ادارة المستشفى لتقرر، اجراء العملية مجانا، لوالدة أبي رسل، ولتمنحه احدى الشركات الطبية تأمينا لها طول الحياة.
في هذه الاثناء، أصبحت قصة تبرع المستشفى وشركة التأمين خبرا صحافيا في كل الصحف، واصبح ابو رسل مشهورا على مستوى البلدية، واصبح مدينا للناس بانسانيتهم، فقط لأنه آثر ان يخصص جزءا من وقته بعد الظهر لتعليم الشباب فنون الرسم.
أبو رسل شاعر وعاطفي جدا وتبكيه نبرة الصوت، لديه حساسية مفرطة نحوها، سلوكه عبارة عن خدمة انسانية عامة، تراه يزيل حجرا عن قارعة الطريق، يساعد امرأة تقود عربة، يحمل اكياسا لسيدة كبيرة في السن، يداعب طفلا ويضاحكه، يستفزه البكاء، ويعمل على اضحاك الاطفال بأي وسيلة، ويذكر لي انه كان ذاهبا الى احدى المدن الاسترالية بالطائرة، وان طفلة ما صعدت سلم الطائرة وهي تبكي ولم تفلح كافة الوسائل معها، وقد بان التوتر على والدتها التي شعرت بالخجل امام الركاب وتقدم ابو رسل، واخرج من بين اوراقه رسومات لاطفال، وروسومات كارتونية، وبدأ يتحدث بلغة الاطفال ويناغش الطفلة، حتى بدأت تضحك وتتفاعل معه بقوة، وتركت والدتها لتستقر الى جانبه طيلة الساعات الاربع.
ويضيف عندما بدأت الطائرة في الهبوط، كانت الطفلة قد أكلت ولعبت ونامت بين يديه، ونتيجة لهذا الموقف الانساني، قدمت له خطوط الطيران تخفيضا خاصا بنسبة 50% على خطوطها، وقام الركاب بتقديم التقدير والاحترام له، وعند الخروج من بوابة المطار أصرت السيدة على سؤاله عن سبب قدومه الى هذه المدينة، فقال لها انه مشارك في حملة انسانية ترعاها احدى الجمعيات في هذه المدينة، وانه سيختار اقرب فندق ليكون قريبا منها، واصطحبته حتى الفندق، وفي اليوم التالي للافتتاح، فوجئ ابو رسل بأن السيدة والطفلة في قائمة المستقبلين له، وبعض القائمين على هذه الحملة، ليكتشف بأن السيدة ليست سوى عضو في مجلس المدينة، وانها اعلامية سابقة، وقد استطاعت ان تقود حملة انسانية موازية عبر وسائل الاعلام الجديد لتؤكد فيها على الموقف الانساني الذي قام به ابو رسل وليصبح الاحتفال احتفالين كما يقول.
صدم بوفاة ابنته وهي عائدة من المدرسة اثر حادث سير، غير انه تنازل عن الحق الشخصي، وتبرع بالتأمين لمدرسة للمعاقين، وظلت رسل تبكيه بشكل دائم، وكتب فيها أجمل القصائد، وعندما قرر العودة الى بغداد وقد رفض العودة لها بعد الاحتلال الامريكي، منحته استراليا جنسيتها في احتفال تكريمي، وتبرعت استراليا بانشاء مستشفى خاص للاطفال وضعت فيه صورة رسل وقصيدتها، تكريما وتقديرا له، ولانه تربطه علاقات جيدة بكل العراقيين، فقد آثر ابو رسل ان تكون له رسالته العابرة للطائفيات، وان ينشئ مع مجموعة من رجال الاعمال مؤسسة يكون هدفها خدمة الاطفال المعاقين، والايتام
تؤثر فيه القصص الانسانية، وعندما يشاهدها كمقاطع يوتيوب، يصبح نهرا من دموع ووجع وبكاء ونحيب، نتركه يبكي كي يرتاح، وكنا نقول له انا نخاف على الفراتين ان ينشفا من كثرة الدموع، ويجيب عندما ينشفان اكون في عالم الخلد، وفي رمضان الفائت، جاءني منه اتصال، من مكة معتمرا، تبادلنا المكالمات، لم تشف غليله ومحبته، التقينا عبر وسائط التقنية الجديدة، كان أحد مرافقيه يؤكد له «ابويا ليش ما تلتقوا وتخلصونه من المكالمات الطويلة» وغادر وهو يذكرني بأنه رأى رسل في المنام، وأخذ يلقي علي قصيدته «رسل».
روكان الدليمي عراقي من زمن المحبة والدفء والانسانية، من زمن العراق الجميل، لا قتل على الهوية، لا طائفية ولا سني وشيعي، رفض ان يكون طائفيا بشكل معلن، تزوج من عائلة شبر، وظل يقول ويردد (العراق وطن أكبر من الطائفة) وانا عراقي عربي الهوية، بعد العيد مباشرة هاتفني من استراليا، وقال لقد غادرت العراق ثانية، كدت اموت في تفجير الكرادة، كل رجال الدين ليس همهم الا جيوبهم، كل السياسيين يبحثون عن مصالحهم، العراق اليوم ينام ويصحو على انفجار، استطيع ان اؤكد لك اننا سنة وشيعة لسنا طائفيين، واننا نتجاوز ما جرى بسهولة، غير ان مصيبتنا الكبرى في جارتنا ايران.
عاد ابو رسل الى مدينته في استراليا، بدأ اتصالاته وجد بعضا ممن علمهم ذات يوم أصبحوا كبارا وفي الجامعات، غير ان المدينة لم تفقد حيويتها، ذهب الى المستشفى قاصدا رسل، حمل الورد والالعاب لقسم الاطفال، جالسهم، ورسم لهم، ووعدهم بأن يلتقوا في المرسم بعد خروجهم من المستشفى، عين موظفا في العلاقات العامة في البلدية، ولا يزال يحزنه حال العراق والامة، توفيت زوجته في بغداد، اختطفها المرض، والان يعيش قصة حب جديدة مع سيدة استرالية كانت ضمن الهيئات الانسانية التي عملت في العراق.