سيدي الأب، سيدتي الأم: كان لنا في جزء المقال الأول وقفة مع صورة من صور الخطر القادم من سراديب غرف منازلنا المتجاورة، وأوجزنا هذه الصورة في ظهور أصحاب «الفكر الضال، أو المتطرفين فكريا بصورة عامة»، بيدَ أن هذا الخطر له وجه آخر وصورة أخرى لا تقل شراسة وخطرا، فمن الواضح أن غرف بيوتنا المتجاورة لا تزال حُبلى بالمفاجآت، فأبناؤنا وبناتنا يملكون ما من شأنه جعل الكرة الأرضية بأسرها في قبضة أيديهم، وباتوا قادرين على صنع محطاتهم الفضائية الخاصة، القادرة على بث الصورة والصوت بـ«كبسة» زر واحدة، وهذا كفيل بفتح الأفق على مصراعيه لنزواتهم ورغباتهم وكل ما يرونه صعب المنال عليهم.
بمعنى أن من أوصدنا الأبواب دونهم هم الآن أكثر الناس وصولا إلى الناس، وبوسعهم أن ينتجوا ويسوقوا ويبثوا منتجهم الإعلامي و(غير الإعلامي) بلا حسيب ولا رقيب، فإن أجادوا فلأنفسهم، وإن أساءوا فلأنفسهم وللعائلة عن بكرة أبيها.
قلت وأكرر: في ظل هذا الوضع يجب ألا ندس رؤوسنا في التراب، ونتناسى غرفا صعقتنا بشباب وشابات اصبحوا من أشهر المشاهير دونما سابق إنذار، حتى دون أن يأخذ بعضهم إذنا من والديه القاطنين بالغرفة المجاورة لغرفته، ففاجأ عائلته بأن متابعيه بالآلاف بل بالملايين، وانه تحول إلى نجم واسم لامع في عالم «السوشيل ميديا» و«غير السوشيل ميديا»، فقط من خلال جهاز هاتفه المحمول.
ولأننا مجتمع يتوسم المثالية في كل شيء سيخرج إلينا من يقول بشكل مندفع وحماسي: من يُحسن تربية أبنائه ويخلق بينه وبينهم جسرا من الثقة لن يتفاجأ بمثل هذه المخرجات مطلقا!، ومن باب النقاش سنوافق صاحب هذا الرأي في جزئية وسنخالفه في أخرى، على اعتبار أن مُسَلَّمَات التربويين تقول: إن تربية الأبناء على الصلاح والمبادىء والقيم، والتمييز بين الخير من الشر لها أثرها الكبير في صلاحهم ووسطيتهم واستقامتهم، ولكن: (هل بات الوالدان في هذه المرحلة خاصة هما مصدرا التلقي والتربية فحسب، بالتأكيد لا، فهما يواجهان جبهة قوية، وقوة خارقة تتجاذب معهما الأبناء يمنة ويسرى، ولو ذكرنا الإنترنت فحسب بكل تأثيره وفاعليته عليهم لكفانا).
نحن أمام قوى بالغة التأثير في تربية هذا الجيل، قوى سلبت الوالدين جانبا كبيرا من صرامة التأسيس والتأثير والتوجيه، وهذا يعني أن القوة الفاعلة في تشكيل قيم ومبادئ الأبناء لم تعد حكرا عليهما، لذا لم يعد عجيبا أن ينظر بعض الأبناء إلى والديه كمتخلفين عن ركب التطور ومعرفة الجديد، في حال لم يجيدا التعاطي مع وسائط الواقع الافتراضي، أو أن يجادلهما في كل شاردة وواردة، ويدّعي معرفة وفهم كل شيء، يقينا منه بأنهما ما زالا في زمن آخر وحياة أخرى غير حياته التي يعيشها.
الأمر جد خطير: فالغرف المتجاورة في منازلنا لم تعد مأمونة كما يجب، ولأنها مغلقة عليهم «بالضبة والمفتاح» بحسب التعبير المصري فلم تعد متاحة كما كانت لكل أفراد العائلة دخولا وخروجا، بحسب طبيعة المعيشة الحالية والنقلة الحضارية اللتين فرضتا على بيوتاتنا وأسرنا نمطا حياتيا قائما على العزلة والانفراد، كلٍ بحاجياته وأشيائه ولوازمه، وكانت النتيجة أن اسهمت في بناء علاقات أسرية فاترة، وأدت إلى صنع نتائج اختزلناها في شكلين أليمين: الفكر الداعشي المتطرف القائم على العنف والجريمة، وذلك التجاوز الخطير للمعقول في استخدام وسائط التقنية الذي انعكس سلبا على الأخلاقيات والمبادىء والقيم.