الحديث ما زال في هذا الصيف عن أفضل ثلاثة أساتذة في حياتي. الموضوع استعراض علو همة سيطرت على مشقة وصعوبات، أروي لكم نسيج انتصاراتها. لماذا تقام العروض العسكرية؟! أليست مؤشر قوة؟! هكذا حتى استعراض نتائج علو الهمة متعدد الأغراض والأهداف. الفائدة تعتمد على مقدار مساحة رغبة الاطلاع، وعلى مقدار حجم دلو الشوق للتعلم والمنفعة. هناك من يتابع لتعظيم متعة الإنجاز والافتخار بتحقيقه. نعيش الانتصار حتى وإن لم نعش أحداثه.
انتهيت من دور الأستاذ الأول. نحن الآن في طريقنا لاستعراض دور الأستاذ الثاني. ساعد في نحت ونقش نجاحي. نستوحي العبر والدروس. نتعلم من كل شيء. لا استعرض بطولات. استعرض علو همة قادت الإنجاز. واجهت تحديات. أكتب عن مشاهد توحي وتقول، كل مشهد أشبه بموجة بحر هادئة ومنضبطة، تخفي بداخلها طاقة عظيمة. على القارئ أن يستنتج بأدواته وأهدافه. هذا المقال الثامن. لوحة تحمل صورا ذات معنى. هدفها إزاحة الستار عن رموز أدعو لقراءتها. مؤشرات توثق لجهود جيلي وكفاحه. بالتأكيد كل جيل بمعاناة، ما زال جيلي يعيش أكثر من معاناة، أرجو أن يتجنب توريثها للأجيال القادمة.
حتى اليوم أذكر أستاذي (عثمان الشاعر) في المرحلة المتوسطة، كان يبني ويغذي نفوسنا وأعماق رغبتنا كأطفال. كان يروي علو همة شخصيات عربية وعالمية شقت مستقبلها وسط جبال من التحديات، رسمت مستقبلها بعرق الجبين الذي لا يجف، بجهد محق الإحباط ومهد لهم طريق النجاح. شخصيات انتزعت نجاحها بالصمود. نقشت مستقبلها بالمثابرة، بالأمل، بالطموح حققوا أهدافهم. هذه النماذج تحولت إلى طاقة هائلة داخل نفسي.
أسرد مشاهد التحديات؛ بهدف التحفيز وتعزيز الأمل والتشجيع. هناك فوائد أترك لكم استنتاجها. حتى الآن أجد ردود أفعال إيجابية لم أتوقع زخمها. كان هذا مشجعا لكاتبكم بالاسترسال في سرد بعض وقائع المعاناة التي عاش. أيضا عاشها جيله. نحن جيل مخضرم عاش حياة الندرة وحياة الوفرة. جيل شق مستقبله بكفاح في زمن الندرة وأيضا في زمن الوفرة. من حق الأجيال أن تتعرف على علو همته.
التذكير بالتجربة يثري حياة الإنجاز، الحياة رواية وقصص بمشاهد، الحياة تتغير، أيضا إيقاعها يتغير، هذا يزيد الفجوة بين الأجيال. التجربة مستمرة لا تتوقف. تختلف في مادتها ونسيج مكونها. يجب على الأجيال مواكبة التغيير لصالحها. الأجيال التي لا تكابد لا تعطي ثمارا ناضجة. التغيير سمة الحياة. من لا يتغير يخسر. حتى التغيير يحتاج لاستعداد وتهيئة. من لا يتجدد لا يتقبل الآخر وإنجازاته. هذا يعطل القدرات والطاقات.
في المقال السابق وقفت مع بعض مشاعري بعد مقابلتي الأولى للمشرف الأكاديمي. اصطفاه القسم لشخصي. اختاروه وفق معايير أجهلها. في هذه المقابلة جاءني الشعور القاسي. شعرت أنه يكره رؤيتي. صادفت جلافة لم أتوقعها. من أول لقاء.
قال: (انظر كم ساعة أعمل، وعليك أن تعمل أكثر مني). خرجت من مكتبه مثقلا بالتساؤلات. أهمها: ماذا يقصد بهذا التوجيه؟! لماذا وجه به من أول لقاء؟!
من نتائج كثرة التفكير في هذا التوجيه تحول عند كاتبكم إلى حكمة نجاح. ركزت على قوله: (اعمل أكثر مني). وجدتها أفضل لوحة إرشادية في حياتي. حتى الآن أعيش درسها. سؤال وتوجيه يحملان رسالة تصلح لكل زمان ومكان. تصلح أن تكون معيارا لإنجاز الفرد في يومه.
بدأت التفكير في كيفية التعايش مع هذا المشرف. بدأت أراقبه وأرصد ساعات عمله، وجدته يعمل يوميا لا يقل عن (14) ساعة متواصلة، جاثم في مكتبه كدبابة على تخوم حدود إحدى الدول العربية، تراقب نجم سهيل في سماه. هكذا جاء الشعور بالنفور. عمقها سلوكه الذي لم أستطع تفسيره.
كان أمامه شاشة يتعامل معها. تجاهلني لدقائق. لم أكن أعرف ماذا يعمل ويسطر. كنت أتساءل ما هذه الشاشة؟! لم أتعرف بعد على جهاز الحاسب الآلي. كنت أشعر أنه يعيش حالة ضيق من وجودي. لكني وجدت باب مكتبه مفتوحا بكامله.
جاء بدء الدراسة. جاء هم الدراسة فأنساني كل هم. استنفرت جهدي وإمكانياتي لمواجهة إدارة مشكلة هم الدراسة وهم إنجازها.
حضرت أول محاضرة في المادة التي فرضها القسم مع هذا المشرف. جلست كعادتي في الصف الأول أمام المشرف الدبابة.
هذا ديدني في جميع مراحل دراستي. لأول وهلة في تاريخ دراستي وجدت نفسي في وضع غير عادي. وضع يعزز التشاؤم ويحمل كل مؤشرات الفشل.. ويستمر الحديث بعنوان آخر.