قِلَّة أولئك الذين يرتادون المجمعات التجارية في الصباح الباكر، لذلك يمكن لمن يتناول قهوته بمفرده، أن يسبح في بحيرة التأملات، أو يتصفح جريدة. فإذا لم يكن وحيدا فقد يتبادل الحديث مع جليسه في ما يشبه الهمس. كنت وصاحبي نثرثر حول موضوع «نقد الذات» ونقيضه المتمثل في هاجس تلميع الصورة، والمبرر المعتاد الذي تلخصه عبارة (هذه حالة فردية نادرة). وكان المجمع هادئاً قبل أن يغزوه (الهكسوس) الصغار بمعيَّة مدرسهم.
فجأة عمَّت الفوضى وعَلَت الضوضاء. فتولدت رغبة في مغادرة المكان، لكن قراءة المشهد تغري بالبقاء. ربما ظن المدرس المرافق أن مسؤولياته قد انتهت بمجرد دخول التلاميذ المجمع، لذلك انصرف تاركا «الغزاة» الصغار يصخبون ويتزاحمون ويتدافعون ويتشاجرون عند كاونتر الوجبات السريعة. قال صاحبي: ربما ذهب إلى السوبرماركت ليؤمن حاجيات البيت من الفواكه والخضار.
أمام تلك الفوضى يرتبك العامل الفلبيني. فكل الأيدي ممدودة، وكل الحناجر تنادي «رفيق.. رفيق». هنالك عداء مزمن للطوابير يتوارثه الأبناء عن الآباء. أتساءل: أين اختفى المدرس؟ ألا يريد أن يشهد بأم عينه وأختها ما سببه غيابه من فوضى؟ وأي انطباع قد تخلفه تلك الفوضى لدى العامل الأجنبي؟
لاحظت ــ وتلك ليست حالة فردية نادرة ــ أن المعلمات أكثر تنظيما وحرصا على الانضباط. يعجبني طابور الصغار أثناء دخول المجمع أو الانصراف منه وكل طفل يمسك بكتف الآخر في مشية تسمى «مشية القطار».
في الذاكرة أيضا أفواج أخرى من التلاميذ في زيارة إلى معلم ثقافي أو فني أو متحف تاريخي أو حديقة للطيور أو مصنع من المصانع، رأيتهم برفقة المعلم أو المعلمة يحملون في أيديهم أقلاماً ودفاترَ يسجلون عليها مشاهداتهم في هدوء يدعو للإعجاب.
ورغم أهمية النشاطات غير المنهجية باعتبارها مصدرا من مصادر المعرفة، إلا أن السؤال الذي ينبغي طرحه هو: ما الحكمة من اصطحاب ذلك الفوج من التلاميذ الصغار إلى مجمع تجاري؟ يجيب صاحبي عن سؤالي بقوله: «في المجمع ركن صغير للألعاب». وما يقوله صحيح، لكني لم أجد من يذهب إلى ركن الألعاب، فالنشاط الرئيس في هذه الزيارة «الميمونة» هو التدافع عند كاونترات مطاعم الوجبات السريعة. قال متهكما: «تلك حالة فردية نادرة».
قلت: إذا كانت التربية هي ما يتبقى بعد أن ننسى ما تعلمناه، فما القيمة التربوية التي سيضيفها مثل هذا النشاط؟ وإذا كان المقصود بذلك الترفيه، فالسؤال هو: ألا يمكن الترويح عن النفس بشكل أكثر انضباطا؟ وهل يتعلم التلميذ، والحال هذه، شيئا غير الصخب والتدافع والتزاحم؟
مرة أخرى، أين اختفى المدرس؟ فهو لم يكن موجودا عندما ترك تلامذته بقايا الوجبات على الطاولات بدلا من وضعها في الحاويات الخاصة بذلك. ولم يكن حاضرا عندما رمى بعضهم مناديل ورقية على أرضية المجمع. وكان غائبا عندما تلفظ أحدهم بكلمات غير لائقة على أحد زملائه. سيقول صاحبي متهكما مرة أخرى: «تلك حالة فردية نادرة». وأقول: نعم هي حالة فردية، لكن رواد المجمع يشهدون من حين إلى آخر حالات مماثلة. فما أكثر الحالات الفردية النادرة، وما أكثر النوادر في حياتنا!
لا أميل إلى التعميم، وبخلاف هذه الحالة «النادرة»، هنالك من المعلمين من هو على درجة عالية من الوعي والكفاءة، ومن ثمَّ فهو يدرك أهمية مرحلة الطفولة في تشكيل سلوك الفرد وإعداده للحياة الاجتماعية، ويدرك أن أي سلوك يكتسبه الفرد في هذه المرحلة قد يلازمه العمر كله.