من تابع تعليق الممثل الخاص للأمين العام للامم المتحدة ورئيس بعثة الدعم الدولي في ليبيا السيد/ مارتن كوبلر على عملية التصفية الجسدية التي راح ضحيتها 12 من سجناء أحد السجون في ضواحي العاصمة الليبية. يصاب بالصدمة، وبالغضب الشديد مما يحدث اليوم وبعد هذه الاعوام من غياب النظام السابق وبروز الثورة إلى العلن.
السيد كوبلر تحدث وعلق بما يجب أن يقوله رجل ومسئول دولي في موقعه، ووضع اصبعه على نقطة، أو نقاط موجعة في الواقع الليبي. فبعد أن طالب بتحقيق دولي ومحلي عاجل لاستجلاء حقيقة الأمر، أكد الرجل على ضرورة أن توضع حدود للإفلات من العقاب في ليبيا، وشدد على سيادة القانون كشرط لقيام مؤسسات ديمقراطية!!
حادثة سجن الرويمي، الذي يقع في منطقة تسمى عين زارة، في إحدى ضواحي العاصمة ليست بعيدة من فكرة الصراع العام في هذه البلاد، وأكاد أجزم بأن من يتتبع تفاصيل هذه القصة المروعة ولديه بعض الدراية بشيء من تاريخ ليبيا المعاصر سيعود حتما بذاكرته إلى حوادث مشابهة، تمت في زمن خيمة القذافي المشهورة في باب العزيزية في مكان ما من طرابلس. سجناء الرويمي في هذه القضية عددهم 19 سجينا وهم في محاكمة منذ اندلاع ثورة 17 فبراير فيما يعرف بقضية المثابة التي يتهم فيها جماعة من الناس كانوا يعرفون حينها بمجموعة فريق العمل الثوري بقتل متظاهرين في أيام 19 و20 فبراير 2011م، وبعد هذه السنين صدر حكم مؤخرا بإخلاء سبيل التسعة عشر إنسانا، بشروط معينة إدارية وغادر منهم 12 سجينا يوم الخميس التاسع من يونيو 2016م مع أسرهم مقر السجن، وفي فجر الجمعة 10 يونيو وجدت الجثث في أكثر من مكان من العاصمة طرابلس معالجة برصاص في أكثر من موقع.
هذه الوحشية والدموية تحيل إلى تاريخ احتل ذهنية الناس في غياب القانون والنظام واستشراء عمليات التلذذ بالثأر بين الليبيين. السجناء كانت تهمتهم أنهم ضد الثورة وأنهم كانوا يدافعون عن النظام السابق أو أنهم من أعوانه، بقاء مثل هذه الفكرة بين الناس يؤكد الفشل الذريع في حدوث مصالحة تاريخية بين الليبيين تجنبهم فكر الماضي ودمويته، وتشير إلى احتمالات استمرار الفوضى وانتشارها على مستويات ربما لم تكن مسبوقة في الزمن الماضي. ذلك الزمن الذي كان يوصف بأنه دموي بامتياز. في ذلك الزمن كانت القرارات تأتي من مزاج رجل الخيمة التي لم تكن تعرف الدستور، ولم تكن تعرف القانون، وكانت البلاد برمتها تعوم على رغبة الخيمة وساكنها وتتماهى مع مزاجه العام. الخيمة والدم والصراع إحداثيات يخيل للمرء أنها أصبحت من أقدار الناس في ليبيا، وأنه من المتوجب على الجميع العمل وربما لمدة طويلة لتغيير تلك الإحداثيات. المجازر والقتل أو العقاب خارج إطار القانون ليس غريبا في الفترة الماضية ويتذكر الليبيون قبل غيرهم مجزرة سجن ابو سليم التي راح ضحيتها 1200 سجين، قيل إنهم مزيج من المعارضين السياسيين وسجناء الرأي وغيرهم طالبوا بشكل جماعي أثناء فترة سجنهم بتحسين ظروف الحياة داخل السجن ولما لم يستجب لطلباتهم ثار بعض الشغب فأسكتته خيمة باب العزيزية بالرصاص، ويقال إن شخصية قريبة من النظام عائليا ووظيفيا، ذلك الوقت، أعطت الأوامر بقتل السجناء وتنفيذ المجزرة. الدموية حتى وإن ابتعدت عن خيمة النظام فهي لا تذهب بعيدا، والأمرّ من ذلك تبقى سلوكا غير مقبول حتى مع الحيوان. ينقل أحد أبرز مرافقي القذافي لسنوات «نوري المسماري» والذي عمل أمينا لجهاز مراسم العقيد، ينقل في أعقاب ثورة 17 فبراير لإحدى الصحف المشهورة قصة كان بطلها القذافي في واحدة من رحلاته للصيد إلى رومانيا تم خلال تلك الرحلة تصفية شخص كان مقربا من النظام لأنه اطلع على معلومات كان يجب ألا يعرفها، وبعد عملية التصفية التي سُجلت خطأ غير مقصود أثناء ممارسة هواية الصيد، اصطاد العقيد غزالاً وبعد الإمساك بالغزال فتحت بطنه وغسل القائد يديه بدم الغزال الساخن. وهو يردد إن هذه الحركة لها فوائد لا يعرفها الكثير من البشر!! هذه الذهنية وأبعادها الصراعية وجوانب التعالي وحب إذلال الآخرين حتى من هم في مراتب رؤساء دول أو مبعوثين دوليين كانت عادة ليست حميدة شهدتها الخيمة التي كانت مصدرا للرعب في الداخل ومصدرا للتندر والاستغراب في الخارج. ومن الذين عرفوا شيئا من تلك السلوكيات الامين السابق للامم المتحدة السيد كوفي أنان وكان في إحدى زياراته لطرابلس بشأن موضوع لوكربي، وتذكر القصص أنه وصل في النهار فصدرت التعليمات من الخيمة أن يقابل الزعيم في الليل، ورتب اللقاء بمخيم في أحد مداخل المدينة قريب من البنيان وعلى الطريق الساحلي رصت فيه مجموعة من الخيام واعداد من الجمال، وقطع التيار الكهربائي عن ذلك المعسكر إلا خيمة العقيد، وكانت الأوامر تنص على أن يؤتى بالضيف من أطول طريق!! يقول من كان يرافق السيد أنان إنه مليء رعبا ربما لم يعرفه في حياته قبل اللقاء وبعد أن غادر الخيمة. مع عدم معرفة الجميع بماذا دار بينه وبين من داخل الخيمة!!
كان هناك سر في فتنة الخيمة والانجذاب اليها في الداخل فمن يعرف أسوار العزيزية وما فيها من مبان لا يتوقع ان الخيمة هي محور حياة القيادة ومن يزورها داخل كل هذه الاسوار والحراسات والحواجز الامنية. وهي ربما بالتوازي أحد محاور الصراع الذي غدا يحتل جزءا من ذاكرة الناس، قديما وحديثا، وإلا ما المسوغ لقتل سجناء قضوا اكثر من اربعة اعوام بعيدا عن أسرهم وعندما بدأ الامل يلوح بواقع أكثر عدالة وموضوعية عادت ذهنية الصراع لتعتقلهم وتمزق اجسادهم بالرصاص وتنثر دماءهم بين طرقات المدينة.
لا أريد أن يفهم من يقرأ هذه الاسطر ان اللوم والمحاكمة للخيمة بحقيقتها الفيزيائية او الوظيفية بقدر ما اتخذت شعاراً بعمد او بغيره للصراع وادارته بين الناس. والخيمة في واقع الامر كانت إحدى معادلات الصراع بين ليبيا في الفترة الماضية وبين العالم، ومن اراد أن يطلع على شيء من ذلك فليتتبع رحلات القذافي في عواصم العالم، وكمية الجدل التي اثيرت حول مقر السكن الخاص به «الخيمة» ومكان اقامتها او نصبها. هذه الجدلية طافت عواصم العالم وغطت اخبار الخيمة في كثير من الرحلات على اخبار المحادثات السياسية، والعلاقات الثنائية.
قد تكون ثيمة لا تخلو من المرض، ولوثة السلطة وعذاب النفس والاخرين من وراء حجب وأشكال أبرزها الخيمة.
كان الله في عون الناس.