مثلُ غيري، تجذبني العناوين القوية. وكان للزميل عبدالناصر العتيبي في جريدة الحياة يوم الثلاثاء قبل الماضي مقال بعنوان «ما هي السعودية؟». وفعلاً، نحن اليوم بحاجة إلى تحديد وتعريف هويتنا أكثر من أي وقت مضى. ذكَّرني عنوان العتيبي بمناقشة طويلة مع أستاذي الأمريكي وزملائي في مرحلة الدكتوراة أثناء الدراسة بأمريكا عام 1974م. أستاذي اعترف بأنَّ «الغرب لا يزال في طور تشكيل أسلوب الحكم المثالي» وعرَّض في آخر حديثه الذي دام ثلاث ساعات، بأنَّ ملوكاً في الشرق الأوسط، أرض الديانات الكبرى ما زالوا يحكمون بأنظمة سلطوية ويعتقدون «أنهم مفوضون من السماء» وأشار إلى جلالة الملك فيصل بن عبدالعزيز -رحمه الله رحمة الأبرار- وهنا استوقفته طالباً أن يعطيني فرصة للحديث عن الملك فيصل بن عبدالعزيز وعن بلادي. نظر إلى الساعة وقال موعدنا معك في الأسبوع القادم.
لم أقرأ عن مليكي وقائد النهضة في بلادي جلالة الملك فيصل لأني عشت الفترة التي تولى الحكم فيها من أول يوم، واستمعت إلى خطاباته التي تضمَّنت ملامح سياسته، وتصوَّرتُ بلادي كما كان يتمناها متمسِّكة بالإسلام، وعامرة بالمصانع والمزارع التي توفِّر العمل والأمن الغذائي.
حضرتُ إلى قاعة الحلقة الدراسية (Seminar) وتحدَّثتُ في أكثر من خمس وأربعين دقيقة عن تاريخنا عبر القرون وركَّزتُ فيه على الحقبة الإسلامية فكراً وممارسةً وهي التي بنى الفيصل -رحمه الله- خطته للنهوض ببلاده حتى يمكنها أن تقود المسلمين وتشارك في صناعة القرارات الدولية.
أشرتُ إلى أنَّ الحكم في بلادي منذ توحيدها على يد الملك عبدالعزيز -رحمه الله رحمة الأبرار- يعتمد على «دين الاسلام» من حيث العلاقة بين الحاكم «الملك» والمحكوم «المواطن»، وكذلك علاقة الشعب والبلاد بالدول والثقافات الأخرى، ومن حيث مسايرة ركب التقدم العلمي في العالم، ومسؤولية الملك عن رفاه الإنسان السعودي وأمنه وحماية مستقبله (فضلاً راجع كتابي «هروب إلى النجاح» على الصفحات 207-212).
رأيتُ يومها - وما أزال أرى اليوم - أنَّ هوية الإنسان السعودي هي «الإسلام» فهو خاتم الأديان السماوية، والمسلمون يؤدُّون صلواتهم كل يوم متوجهين إلى «مكة المكرمة» العاصمة الدينية للمملكة. وهذا الدين يعترف بالأنبياء والرسل الذين سبقوا سيدنا محمداً بن عبدالله عليهم السلام جميعاً؛ ونبينا محمد دعا إلى عبادة الله وحده مثلما دعا إلى ذلك من قبله إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام. والإنسان السعودي يحترم الإنسان «مهما كان لونه، أو لسانه، أو ثقافته، أو بلده». الإسلام منهج حياتنا وهو يدعو إلى العلم والمعرفة ويحترم العلماء ويساوي بين المرأة والرجل. إنَّنا نسعى -في ذلك الوقت ونفعل ذلك اليوم - إلى إقامة حضارة إنسانية تنتشر فيها الجامعات والمكتبات ومراكز الأبحاث العلمية وتتحقَّق فيها العدالة وسلامة الفكر الحرّ وأن تكون قيمة الإنسان فيما يحسنه.
والطريف في هذه الحلقة الدراسية أنني عندما قاربت على ختام حديثي أن انفجرت زميلةٌ لنا اسمها «لويس» باكيةً بصوتٍ عالٍ.. وهرع أستاذي جو نيكلز «Joe Nichols» لتهدئتها وسؤالها فقالت: «إنني أبكي لأنه ليس لنا في أمريكا تاريخ.. الناس يتحدثون عن تاريخهم بآلاف السنين، ونحن لم نكمل مئتي سنة بعد الاستقلال، ونحاول أن نحكم العالم.. ونفرض على الناس نظمنا وأساليب حياتنا».
وختاماً فإنني أؤكد أنَّ «السعودية» هي: نحن أبناؤها.. وهي علمٌ ينفع الناس.. وهي قولٌ ينطق بالحق.. وهي عملٌ يبني الوطن، ويصون الجار، ويُعين الصديق ويشارك في رفاه الإنسان.