مع البواكير الأولى لوصول الضيف الجميل تتجدد الذكريات ليكون لنا بقرب رمضان بداية قصة أول حروفها أصوات الأذان، وتراتيل القرآن، ولقاء الأحباب والخلان، والتفاف العائلة، وهروب الأحزان كأجواء يلتف من خلالها الغصن على الغصن ليورق بين جنباتها الزهر بقرب رمضان، لذا سيصلك أخي القارئ مع بواكير شهر الرحمات والرضوان، بلغنا الله إياه، جمهور من رسائل التبريكات والتهاني بقدومه، ومعها يتبادل الجيران الأطباق وبين جنباته صندوق الرطب الأصفر والأحمر، كما ستصل مسمعك في أول أيامه من بعض عائلتك كلمات تطرق الآذان.. شربت ماء بالغلط، ناقصنا لفة سنبوسة وعلبة فيمتو، وإذا جلست على السفرة الطويلة تسمعك الأم أو الزوجة «حاسه في شيء ناقص على الفطور»، كما سترى اللحظات التي تسبق الأفطار بنصف ساعة وكأنها لحظات سباق مع الزمن فالزوجة في المطبخ، والأولاد عند التلفاز، والأب يلحق يجيب صحن الفول الحار مع الخبز، وسترى في المقابل قوافل المتطوعين الذين يقفون على الإشارات يوزعون التمر وقت الأذان.
أحداث تشعرك بتغير الكون وكأن للكون من أحداث لغته الخاصة وطبيعته المتغيرة كتعاقب الفصول، فللإنسان سواء كان في عمره الذي بدأ من الطفولة إلى الشيخوخة وما يتعرضه من أحداث وتغيرات فسيولوجية وفكرية وعاطفية وفكرية هي في حقيقتها غربلة تمّر لتحدث تغيرا وتغييرا.
وإن المتأمل للشهور يجد أن شهر القرآن والرحمة والغفران والعتق من النيران قد توسط الشهور ومن خلاله تمتد خيوط رحلة للإنسان والكون بقرب رمضان يقترب منا ليقترب معه صوت خافت هادئ ممتلئ بالسكينة يسبح في الأعماق، ولعل توقيت الصيام بشهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن تذكير للإنسان بنعمة الرسالة المحمدية، ونعمة الهداية القرآنية التي يكون الشكر عليها بالاستمساك بها، فبرمضان ارتبطت الأرض بالسماء بحبل الله المتين وهو القرآن الكريم الذي هو الدستور للتغيير للإنسان وللأمة.
فبإشراق الروح بالصيام وتلاوة القرآن تتوجه القلوب إلى الله بالدعاء الذي لا يُردّ، لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «ثلاثة لا تُرد دعوتهم، الصائم حتى يفطر -أو حين يفطر- والإمام العادل، ودعوة المظلوم» رواه أحمد والترمذي، ولعل مما يشير إلى الإغراء في الصيام توسط قوله تعالى «وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ» بين آيات الصيام ليكون الدعاء الحافز والمشجع والمرغب في تغيير نظرة الإنسان للعبادة، وتغيير نمطها كعادة سنوية.
لذا كانت الغاية من وجوب الصيام هي أن يحدث المسلم قرب بلوغه الشهر غربلة شاملة في كل أموره، فليس الهدف أن يمتنع المسلم عن الملذات المباحة فقط ولكن الغاية أكبر من ذلك، فالصيام في حقيقته مدرسة للصبر وللتسامح والعطف وولادة للمعاني الإنسانية وإيقاظ الشعور، وليتربى فيه المسلم روحيا وفكريا وخلقيا، لذا نجد القرآن يشير إلى الغاية من فرضيته عندما قال سبحانه «يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون»
وقريبا في رمضان تستمر دعواتنا ونحن بروح أنقى وقلب أتقى وعمل أرقى.