هل هي تونس التي تعيش زمن التحولات، والمراجعات، والمقاربات، وكما يقال في جانب آخر التطوير، أم أن المنطقة برمتها مقبلة على هذه الصيغ؛ من اجل البحث عن مخارج جدية ومبتكرة لامتصاص كثير من مصادر الاحتقان والتوتر في المجتمعات العربية فيما بعد أحداث العام 2011م؟.
لمثل هذا السؤال لم تتح الفرصة الكافية بعد في وسائل الاعلام للتعامل معه بعين فاحصة، وبجدية تتناسب وحجم الاخطار المحيطة بالمنطقة العربية، في المشرق والمغرب.
فالجميع ربما يعرف أنه منذ العام 2011م توافقت إرادات دولية فاعلة على أن مشاركة جماعات ما يعرف بالإسلام السياسي أمر مقبول، بل ضروري لإدارة عجلة السياسة في منطقتنا في المرحلة القادمة. وفيما يخص الوضع في البلاد التونسية صرحت وزيرة الخارجية الامريكية حينها السيدة هيلاري كلنتون أن مشاركة حركة النهضة في تعاطي السلطة وإدارة الشأن العام في تونس أمر حيوي ومقبول! هذا الموقف كان بمثابة التأشيرة الحقيقية لتلمس الاحجام الحقيقية لطموحات هذه التنظيمات، كما كشف مقدارا كبيرا من تعطش هذه الجماعات للقفز إلى مساحات العمل السياسي، وأزال في ذات الوقت كثيرا من الغموض عن عمق هذه التنظيمات وتغلغلها في عدد من مجتمعاتنا العربية من خلال حجم التأييد الذي منح لها على أطباق من ذهب.
فيما يخص حركة النهضة، فتونس ينطبق عليها الكلام السابق بشكل يكاد يكون حرفيا، وهي في الحقيقة لم تكن تلك الحركة النكرة في المجتمع التونسي، ولا في المحيط الاقليمي عبر امتداداتها الايدلوجية والتنظيمية، وعلاوة على ذلك فهي سعت بذكاء الى استثمار تغير النظام في تونس بعد ثورة الياسمين وخروج زين العابدين بن علي من المشهد هو وحرسه القديم، وتنظيماته السياسية ممثلة بحزب التجمع الدستوري العريق الذي يملك تاريخا يوصف بين اغلب التونسيين بالوطني. منذ نشأته 1920م ومنذ تقدمه لتسلم إدارة الأرض المستقلة من الاستعمار الاجنبي 1956م كل ذلك كان انتصارا كبيرا سياسيا ومعنويا للنهضة ورموزها، وفيما بعد ذلك لفكرها ورؤيتها للسلطة وادارة الناس في تونس.
خطوة أن تعلن النهضة عن تغيير مسارها الدعوي وتربطه بمسار اخر ذي طابع اجتماعي مدني قفزة للامام تتناسب مع مكونات النهضة الذاتية التي ربما لا تتوافر لمثيلاتها في المنطقة، ومن ابرز تلك المكونات، وجود القيادة المتمرسة، ذات التجربة في العمل السياسي والدعوي والتنظيمي، ممثلة في شخص راشد الغنوشي، هذا اذا عرفنا أن هذه الشخصية القيادية هي المسيطرة وبدون منافسين حقيقيين، على الساحة. وترى معظم التحليلات أن النهضة مع وبالغنوشي لن تكون النهضة في المستقبل تحت قيادات اخرى. هذه الخطوة بكل تأكيد ليست قفزة في الهواء، او خطوة للمجهول. وربما تحتاج إلى قراءة متأنية في ثلاث دوائر، الدائرة الاولى في المحيط التونسي الداخلي الذي عجزت النهضة في ثاني انتخابات في العهد الجديد الاستيلاء على ممارسة السلطة بالكامل، وبشكل منفرد. وعجزت القوى العلمانية الموازية أن تنفرد وحيدة بقصب السبق، فكانت البرغاماتية السياسية في ابرز صورها، التي اجبرت النقيضين على تقاسم السلطة كخيار وحيد واجباري.
ويأتي ظهور القائد الباجي السبسي مع الغنوشي في اجواء احتفالية بانتخاب الغنوشي مجددا للحركة التي تنوي ان تصبح حزبا لا يتعاطى الا مع الشأن السياسي وينأى بنفسه عن الشأن الديني. السبسي نظر إلى أن كل ذلك «تطور» ومنتج سياسي يناسب تونس ووسطيتها المتأتية من الابواب الواسعة التي يؤسس لها الفقه المالكي اساساً، وللمسحة العالية من المرونة في الرؤى الفقهية الحنفية. وبعيدا عن ذلك حذر النهضة وقياداتها في يوم عرسها الكبير أن المحك الاساسي العمل، والتطبيق وليس الخطب، والوعود.
ما تمخض عن اعلان التحول في الحركة السياسية ذات الاصول والمرجعية الدينية إلى حزب سياسي يلتزم نظرياً بصرامة الدستور التونسي الذي يؤكد على علمانية النشاط والتفكير السياسي شكل موجة من الارباك للمراقبين الذين لم يستطيعوا الامساك برأس خيط التحول أو التطور الذي تسعى إليه هذه الحركة، هل جوهر كل هذا الحراك الذي اعاد الانظار إلى تونس من جديد، بحث عن ديموقراطية مسلمة، أم ممارسة علمانية لشؤون الحكم بخلفية وثقافة وتراث اسلامي؟. النقطة الاكثر صعوبة واشكالية في كل ذلك هي الخاصة بالتطبيق وتصور آلياته وامكانية تطبيقه.
من الرؤى الواقعية لما يحدث في البلاد التونسية اليوم أنها تسير في طريق الاتجاه الممكن لبقاء الاوضاع على حالها، ولعدم تقهقرها، ولعدم اثارة الناس بسببها. تونس محتاجة داخليا الى توافق، يبعد شبح الفرقة بين اطراف اللعبة السياسية، وفي الدائرة الاوسع على هذه الحركة الطامحة إلى التلذذ بممارسة السلطة بعد حرمان دام عقودا دون أن تغير في أدواتها وهي تقدم نفسها بشكل جديد تحقق معه قبولا اقليميا، وتحقق البلاد به علاقات اكثر ثقة وفائدة في المحيط الاقليمي. الاشارة الابعد ربما تغازل بها الحركة والسياسة التونسية الضفة الشمالية للبحر المتوسط. وطمأنتهم على أمرين الاول تحقيق تطلع هذه الاطراف بحدوث تداول وتقاسم للسلطة من أطياف العمل السياسي الوطني، والاخر ابراز الوجه التقدمي للبلاد التونسية الذي يفوق ما لدى غيرهم من العرب بمرونته وقدرته على التطور والتغير. وهذه فكرة مهمة وكثيرا ما يتم التركيز عليها وبصورة تقليدية لدى صانع السياسة التونسي.
واذا حاولنا التقدم للامام لقراءة النتائج الممكنة والمحتملة مستقبلا، فقد نجد من يقول: لماذا لا تكون هذه التجربة التي تعد منتجا تونسيا خالصاَ، محل استفادة للاخرين في المنطقة بما يزيل كثيرا من نقاط الاحتقان المتأتية اصلا من اقصاء، او عدم رضا، وقبول بمكون وطني ما. في الوقت الذي قد تجد هذه الافكار او التطورات من يحتضنها ويحاول «فرض» استنساخها في مناطق اخرى من عالمنا العربي.
اليوم في تونس هناك رئيس يمثل كل التونسيين هو الباجي السبسي، وهناك الغنوشي وهو رجل ينظر إلى نفسه، وينظر اليه جمهوره ومريدوه على انه حقق انجازا أعطي لهذا التصور هويته الوطنية، وأنه قادر على الخروج من وصاية أي تنظيمات لم تعد تقدم منتجا مرغوبا في المنطقة. هذا احتمال تستمر معه الايام القادمة في حياة التونسيين وقبولهم من عدمه بهذه المراوحات التي يختلط فيها السياسي بالديني بالثقافي بالوطني. محطة اختبار حقيقية للغنوشي وللحركة «الحزب». وتبقى مع كل هذه التطورات البلاد التونسية محكومة بثنائيات الافكار والشخصيات، العلماني في مواجهة الدعوي، والديموقراطي، في مواجهة الاستبدادي، والغنوشي في مواجهة الباجي السبسي، خاصة بعد ان انتهى زمن بن علي الذي حاول ان يكون معادلا للراحل ابو رقيبة في حياته ومماته، ولعل من صدف الاحداث أن يعاد بأمر من الرئيس التونسي الحالي وفي نفس الاسبوع الذي تم فيه الاعلان عن هذه التحولات، تمثال للراحل ابو رقيبة وهو يمتطي صهوة جواد كان قد ازيل قبل أكثر من 29 عاما من شارع رئيس وسط العاصمة. إن كانت هناك دلالة معينة بين التونسيين لما يحدث فما عساها أن تكون. الوقت سيخبر الجميع التونسييين وغيرهم بكل الدلالات.