هذا الشيخ الفلكي الكويتي د. صالح العجيري، من منا لم يسمع عنه أو رآه على شاشات التليفزيون، واستمع إلى حديثه العذب وهو يسرد قصصا وحكايات تشدك إليه حتى تقول في نفسك: ليته لا يسكت! فهو بين فكاهة وطرفة متزنة وبين علوم متنوعة وعمق في علوم الفلك، وذاكرة حاضرة وابتسامة لا تغيب عن محياه.
حكايته مع «علم الفلك» حكاية عجيبة لعل الكثير منا لا يعلم عنها شيئا، ففي عام 1945م وقع بين يديه كتاب في علم الفلك للمؤلف المصري الأستاذ الكبير عبدالحميد مرسي غيث، فقرأه العجيري عدة مرات، فهم بعض أجزائه وعجز عن فهم أجزاء أخرى، فما كان منه إلا أن عقد العزم للقاء مؤلف كتاب «الزيج المصري» ليشرح له ما خفي عليه من معلومات.
فقام برحلته الطويلة التي تنوعت كلها بين وسائل مواصلات برية وبحرية بما فيها ركوب الدواب، فقد استقل السيارة من الكويت إلى البصرة، ثم القطار البخاري إلى بغداد، ثم إلى بلاد الشام بسيارات شركة «نيرن» العملاقة، ثم إلى بيروت بالسيارة أيضا، ومنها بالباخرة إلى الاسكندرية، ثم بالقطار إلى القاهرة، ثم بالباص إلى محافظة الشرقية، ثم بالسيارة إلى قرية (ميت النحاس)، ثم على ظهر الدواب بين بساتين القرية إلى منزل المؤلف.
فوجده عجوز يزيد على الثمانين عاما، فظل في ضيافته فترة طويلة، حيث تلقى على يديه الكثير من علوم الفلك، ثم وجهه إلى القاهرة ليلتحق بجامعة الملك فؤاد الأول ويتخصص في علوم الفلك، وهناك أتم دراسته ونجح بتفوق، ثم توجه إلى مدينة المنصورة، واستكمل دراسته الفلكية هناك.
وفي عام 1952م مُنِح العجيري الشهادة الفلكية العلمية الثانية تقديرا لأبحاثه العلمية القيمة، وبعد هذه الرحلة الطويلة التي دامت سبع سنوات عاد إلى موطنه الأم «الكويت» ولم يكتف برحلته هذه، بل زار عدة دول أوروبية وعربية وإسلامية. وشارك في كثير من المؤتمرات الفلكية العربية والدولية، فكان نتاج ذلك أن منحته جامعة الكويت شهادة الدكتوراة الفخرية تقديرا لجهوده وتميزه وإسهاماته، وكان ذلك في عام 1981م.
يقول د. صالح في كلمته للشباب بعد أن تجاوز الثمانين من عمره: (غاية ما أقدمه إليكم أن تجعلوا العلم أسمى أهدافكم، وإن المرء يدرك بالعلم ما لا يدركه بسواه، ليس هناك «معلم» يستطيع أن يهبك العلم مثلما تهبه أنت لنفسك، فأنت خير معلم لذاتك، وبنفسك ترقى إلى سلم المجد، ويقيني أن كل إنسان يوطد العزم على أن يحصل على مبتغاه من المعرفة أو أي عرض من الدنيا فإنه سيبلغه لا محالة، سيبلغه بالجد والاجتهاد والعمل الدؤوب والإخلاص والتفاني).
وماذا بعد:
هل هناك رسالة توعوية يمكن أن نهديها لشبابنا أكثر قناعة من رحلة هذا الشيخ الذي لم يستسلم لأوراق التقويم السنوية التي تذكره في كل عام بأنه أصبح طاعنا في السن؟!
إن من أجمل الأحاسيس الشعور في دواخلنا بأننا قمنا بالخطوة الصحيحة حتى ولو وقف العالم أجمع ضد طموحاتنا وعزائمنا، فهل من معتبر؟!.