كثيرا ما تلجأ الحكومات الى بيوت الخبرة الاقتصادية لتقييم أوضاعها الاقتصادية وتقديم المشورة ناحية الإصلاح والتطوير، وهنا نتساءل هل يمكن أن تقدم لنا مثل هذه البيوت التي عملت سنوات طويلة حول العالم في هذا المجال، ولديها الإطار النظري والتجربة العملية.
الجواب ليس بالبساطة التي يبدو عليها، صحيح أن هذه البيوت تمتلك من التجربة على المستوى الدولي ما يفوق أية جهة استشارية محلية، ولديها من الكوادر والتنظيم المؤسسي، والرؤى الخدمية ما لا يمكن مقارنته مع أية جهة محلية سواءً في المملكة أو الخليج أو أغلبية دول العالم، لكن الشيطان دائماً في التفاصيل كما يُقال.
كثير من التجارب الحكومية في الدول العربية وبعض الدول الخليجية للاستعانة بمثل هذه الجهات لم تحقق النجاح الذي راهنت عليه قياساً بالنجاحات التي حققتها في دول أخرى، لأسباب تتعلق أحياناً بأسلوب ونوعية العقود، وضوح الهدف للطرفين، تقسيم الصلاحيات، مستوى التنسيق، درجة الشفافية وأحيانا تتعلق بمجمل الإرادة السياسية.
كل هذه الأسباب الجوهرية التي يمكن أن تفشل أو تنجح أي مشروع حكومي مهما كان حجمه ونطاقه وأهميته، وتتعلق بصورة مباشرة بكفاءة وجدية الحكومات، لكنها ليست الأسباب الوحيدة، ولإيماني بأن حوكمة العمل الحكومي يمكن أن تخفض من تأثير العوامل التي تتعلق بطرف الدولة فسأتحدث باقتضاب عن عوامل أخرى قد تتسبب في الفشل لكنها تتعلق ببيوت الخبرة نفسها.
بيوت الخبرة الاقتصادية في أحيان كثيرة لا تقدم الحلول لأسباب منها مثلاً إهمالها أو غضها الطرف عن التأثيرات السياسية والدولية للتحولات الاقتصادية المرجوة في دولة معينة، فإعادة التموضع اقتصادياً على خارطة العالم تصطدم أحياناً بمحاذير سياسية واستراتيجية تتعلق بتوازن القوى وغيرها من النظريات التي تندرج تحت نظريات السياسة الدولية.
أما على المستوى المحلي فتواجه هذه البيوت مشكلة في تصور النظام الاقتصادي والاجتماعي والاجتماعي-الاقتصادي (socio-economic) لأسباب عديدة من أهمها أن كثيرا من المشكلات الاقتصادية مثل الفقر، البطالة، مساهمة الفرد أو المؤسسات المحلية في الناتج القومي، التركيز على أعمال غير منتجة إلخ، تمتد جذورها إلى ميراث يتداخل في التقاليد، والتفسير الديني، والثقافة المحلية وغيرها.
البعض مثلاً يرى أن هذه الشركات الخبيرة ومتعددة الجنسيات لديها نجاحات في أماكن أخرى من العالم تعاملت فيها مع مشكلات التنوع المرجعي للاقتصاد والثقافة والحالة والاجتماعية وغيرها، هذا ليس بالضروة ضمانا لنجاحها في مجتمعات العربية والخليجية، ولكن أكثر وضوحاً فإن كثيرا من نفوذ المرجعيات الاجتماعية الثقافية محلياً للحالة الاقتصادية أكثر بكثير من أي مجتمع حقق نجاحاً وفق المفاهيم (المعولمة) للاقتصاد.
أمر آخر يتعلق بالمراهنة على سمعة الشركات الكبرى في هذا المجال، صحيح أن هذه البيوت تعتمد على سمعتها، والتي تعد أهم أصولها ورهانها للنمو بأعمالها حول العالم، وبعض الشركات التي لحقت بها فضائح خرجت من السوق في وقت قياسي خاسرةً كل ما بنته خلال عقود.
إلا أن هذه المسألة تحتاج إلى نظر أيضاً، فبعض هذه الشركات التي لم تنجح في الدول المجاورة لم تدفع ثمن ذلك لكون كثير من عملائها حول العالم يثمنون لها نجاحات كبيرة في دول أخرى، وبمعنى آخر أن تلك الأموال المغرية لها قد تكون في حالات معينة أهم من تحقيق النجاح.
سبب آخر له علاقة بذلك وهو عامل الاستمرارية والمشاركة، فكثير من البيوت الخبيرة قدمت برامج عكفت على تنفيذها أو استفادة من عقود مستمرة تتعلق بها، وهو ما جعل تلك الشركات تحرص من البداية على دراسة مستفيضة وتقديم برامج عملية لمصالحها بينما لم تكن بتلك الكفاءة حينما كانت العقود تنص على تقديم مشورة مقابل مبلغ مالي كبير.
أخيراً هذا لا يعني عدم الاستفادة من هذه الجهات التي قدمت برامج عملية، لكن سيظل الحل الأكثر إفادة هو استقطاب الخبراء الدوليين، وإنشاء أو دعم وجود بيوت خبرة محلية لديها والاستثمار في المواطن فكما يُقال «أهل مكة أدرى بشعابها».