قضينا رمضان الماضي والذي قبله نتحدث عن التلاعب بالأسعار، أحياناً الطماطم وأخرى الليمون، وكيف أن تسعير السلع- ولاسيما الخضار- يتفاوت من بقالة لأخرى ومن سوبرماركت إلى هايبرماركت، حتى ليكاد يراودك شعور ان السعر لا يخضع لقوى العرض والطلب بل لقوة الطمع والجشع وممارسات «تضبيط» الأسعار. ولم يك ذاك أول رمضان يحدث فيه ارتفاع في أسعار المنتجات الزراعية بما في ذلك الورقيات كالخس والكزبرة والبقدونس، بل إن ارتفاع أسعار هذه المنتجات أخذ طريقه ليصبح –للأسف- من متلازمات رمضان، كما المسلسلات التلفزيونية «الباصقة»، فما أن تلوح تباشير الشهر الفضيل حتى تتأجج الأسعار!
الآن وقبل قدوم الشهر الفضيل، وفيما بعض البائعين «يسنون سكاكينهم»، أرجو الله سبحانه أن يبلغنا جميعاً الشهر وأن يتقبل منا، وأتساءل: هل سنستمر على هذه الوتيرة للشهر الذي على وشك الوصول؟ ولماذا لا نتدبر الأمر من الآن؟ بينت سابقاً عن ملاءمة أن تعلن الأسعار في القنوات التقليدية (مثل الراديو كما يفعل أشقاؤنا في دولة الكويت) وفي القنوات الجديدة فنبرمج تطبيقاً للهواتف الذكية يعرض أسعاراً محدثة للفواكه والخضار المحلية والمستوردة واللحوم بأنواعها والأسماك والأصناف الرئيسية مثل الأرز، على سبيل المثال لا الحصر. ولا بأس أن تأخذ الأمانات والبلديات ووكالة حماية المستهلك في وزارة التجارة والاستثمار المبادرة بأن تعدّ العدة من الآن لإرسال رسائل نصية أو إطلاق تطبيقات تُحَدث باستمرار بالأسعار، بل وتستقبل تخفيضات الأسعار والعروض من البائعين، لإحاطة المشترين، فالسوق الكفؤة تتطلب بيانات كاملة وحديثة وموثقة. هناك من يظن أن العنصر الأهم في ضبط الأسعار هو الرقابة، لكن يمكن الجدل أن العنصر الأكثر تأثيراً هو المعلومات بمعنى أن امتلاك المستهلك للمعلومة سيجعله يتخذ قرار الشراء عن وعي، أما ما يحدث حالياً فهو أن المستهلك يدخل السوق في حالة «غياب عن الوعي» غير ملم بمستوى الأسعار، ولذلك يشتري وهو غير متيقن، وليس له كثير خيار إن كان يتسوق تحت ضغط الوقت والحاجة، مما يجعله يُقدم على الشراء إذعاناً وليس اقتناعاً.
وحالة عدم الاطمئنان لدى المستهلك لا يمكن أن تترك هكذا، لاسيما أن الحلول متاحة وعلينا تنفيذها حتى لا تصبح أسواقنا ملاذاً للجشعين، وحتى لا تصبح جيوب المستهلكين نهباً للشطار. والمقترح المحدد: اللجوء لبث المعلومات عن أسعار السلع الأساسية التي تشملها السياسة التموينية المعلنة للمملكة، والتي تقوم وزارة التجارة على انتهاجها، وهي سياسة رئيسية ومؤثرة.
ويتحقق البث بالقنوات التقليدية «خالص» عبر الإذاعة، وغير التقليدية عبر قنوات التواصل الجديدة على تنوعها؛ مثل مواقع تطبيقات الهواتف الذكية والتطبيقات المرتبطة بالإنترنت. أما إن قررنا ألا نحرك ساكناً، فسنجد أننا ندور في حلقة استغلال الحاجة للسلع الاستهلاكية بما يؤثر سلباً على حقوق المستهلك سعراً وجودة. ومع الاقرار بأن ليس بالامكان القضاء قضاءً مبرماً على هذه الممارسات، لكن لابد من مواكبتها فتلوث حليب الأطفال الذي حدث قبل سنوات ليس قضية ثانوية، وهبوط أسعار الأرز عالمياً وتماسكها محلياً أمر يجعل العاقل حيران!
وعلينا ان نتذكر أن اكتشاف وزارة التجارة لكميات من الحليب الملوث تزامن مع إيقاع الصين لغرامات مالية تجاوزت 100 مليون دولار بست شركات نتيجة لتلاعبها بأسعاره من خلال الاتفاق فيما بين تلك الشركات على «تضبيط» السعر. السؤال: ألا توجد تكتلات من الشركات عندنا «تضبط» الأسعار (للحليب وغيره من السلع الضرورية المشمولة بالسياسة التموينية) وتتلاعب بها؟! في كثير من الأحيان مَن يتحكم بالسعر هو الوكيل الحصري الجذري والوحيد لعشرات بل مئات من الأصناف، ومصداقاً لذلك فقد نشرت صحيفة الاقتصادية قبل أشهر العجب العجاب فيما يتعلق بالوكلاء ووكالاتهم الحصرية، إذ إن بعضهم يسيطر على آلاف السلع والخدمات، وبذلك يضع السعر الذي يرغبه هو. ولا ننسى أسعار الأرز التي لا تعكس ما يحدث عالمياً، على سبيل المثال.
القصد، أن على وزارة التجارة والاستثمار ومجلس حماية المنافسة دراسة وضع الوكالات التجارية بعمق، ومدى سيطرة مجموعة صغيرة من التجار عليها، وعندما أقول مجموعة صغيرة فالقصد هنا عدد لا يزيد على العشرة، بمعنى ان نطاق الدراسة المطلوبة محدد: (1) من هم التجار الذين يسيطرون على 80 بالمائة من وكالات السلع الأساسية؟ (2) ما مدى جدوى اجتراح آليات لكسر الطوق كإنشاء شركات تقتسم تلك الوكالات فيما بينها حتى لا يصبح قرار مأكل ومشرب المستهلك بيد تاجر أو اثنين، وإلا فإننا نكون عملياً نشجع الاحتكار والاستئثار بالسوق بما يتعارض مع المنافسة وحرية الدخول والخروج من السوق. ولعل من الملائم إدخال التعديلات الضرورية على نظام حماية المنافسة وعلى السياسة التموينية واستحداث آليات فعالة لنتخلص مما نحن فيه من استغلال للمستهلك، وسط غياب معلومات السعر وشيوع الممارسات غير التنافسية، التي لا سبيل لضبطها نتيجة لتركز توكيلات السلع في يد مجموعة صغيرة من التجار.