يقول الدكتور عبدالله النفيسي في حديث تلفزيوني إنه عاد من كامبيردج البريطانية حاملاً شهادة الدكتوراة في العلوم السياسية بعد أن شاهد بعينيه كيف كان يقف طلاب أمام سيارة وزير بريطاني لمنعه من دخول الجامعة وإلقاء كلمة مجدولة فيها احتجاجاً علي سياساته.
حينما عاد النفيسي انضم للبرلمان الكويتي ثم تحول مع مجموعة من الناشطين والبرلمانيين إلى تنظيم حركة احتجاجية ضد إغلاق البرلمان الكويتي في محاولة لإعادة الحياة السياسة قبل أن يُعتقل في إحدى الأمسيات دون أن يقف معه أحد، هذه الحادثة أوصلت النفيسي إلى قناعة بأن الأمور لا تستحق التضحية.
هذه القناعة التي خرج بها النفيسي يشاركه فيها كثير من الطلاب الذين درسوا في دول غربية وعادوا بأفكار وطموحات للتطوير أو الإصلاح لا تنسجم مع السياق الثقافي والحراك الاجتماعي أو الحالة الاقتصادية أو الظروف المحيطة في المنطقة الخليجية، وهو ما دفع المفكر الكويتي لإعادة كثير من أولوياته في الآونة الأخيرة.
هذه الحالة أصبحت أكثر تجسداً مع اقتراب العالم من خلال شبكات التواصل والإنترنت حيث تبدو كثير من المفاهيم التي تتردد اليوم في جميع دول العالم لها نفس التفسيرات وبمعنى آخر فإن مصطلحات مثل الديموقراطية أو حرية التعبير أو حقوق الإنسان وغيرها صالح لكل زمان ومكان فهل هي كذلك على أرض الواقع؟
الواقع هو أن تطبيق الديموقراطية في بريطانيا مختلف عن الكويت، وكذلك باقي المصطلحات ليس بسبب الفكرة أو عدم وجود الإرادة السياسية بقدر ما هو الفارق في السياق التاريخي والاجتماعي والثقافي للتجربة وأولويات المواطنين وانتماءاتهم وغير ذلك، بل إن ديموقراطية أمريكا وبريطانيا أو تطبيقهم للرأسمالية مختلف إلى حد كبير.
اليوم مثلاً تبذل الدول الأوروبية وجانب كبير من دول رابطة الكومنولث كثيرا من الجهود لمواجهة خصخصة الإعلام العام الذي تتزعمه الولايات المتحدة الأمريكية لأن هذه الخصخصة ستنتهي إلى تذويب الإعلام والثقافة الغربية (غير الأمريكية) في التجربة الأمريكية على غرار ما حدث في قطاع (الأفلام) لجوانب اقتصادية بحتة.
في الصين تحظر الدولة كل وسائل التواصل الاجتماعي الغربية مثل (الفيسبوك وتويتر واليوتيوب وواتس اب وغيرها) وتدير الدولة مواقع اتصالية حكومية مقلدة لهذه المواقع تقدم نفس الخدمات باللغة الصينية للمواطنين وهو ما يجد موافقة شعبية، بينما لم تستطع خدمات البث العام البريطاني إلى اليوم تقديم شبكة تواصل محلية تخص المواطنين لأسباب مجتمعية.
صحيح أن التجارب الغربية اليوم في صدارة التجارب في مجالات الإدارة والاتصال والعلوم والتقنية وهو ما يدفع دول العالم دون استثناء إلى توجيه أبنائهم غرباً للحاق بما يمكن اللحاق به في هذه العلوم، بالإضافة إلى سمات هامة مثل ثقافة الحوار، والجرأة في الطرح، والتعامل الإنساني الودود وغيره من الصفات الهامة التي يفتقر إليها القسم الشرقي من العالم.
ومع هذا لا يزال بين المحيط العربي والخليجي وبين المحيط الغربي مساحة كبيرة لا يجعل من الحكمة نقل التجارب الغربية إلى المنطقة بالرغم من حتمية فشلها، لكن فهم كل حالها في سياقها بكل تأكيد يعطي دروساً في كيفية التعامل مع متطلبات المنطقة الخليجية بصورة منطقية وعقلانية بعيداً عن العواطف أو المزايدات.
في سياق الحديث هذا يعود بعض المبتعثين بأفكار حتى إن كانت مثمرة تحتاج إلى أن تجد لها سياقاً منطقياً داخل المجتمع، وهو ما يجعل التغيير حالة مستمرة لكنها أكثر بطئاً من الطموح الذي يحمل الشباب في كثير من الأحيان على مصادمة المجتمع بموروثاته الثقافية وتقاليده.
الدرس الذي تعلمه الكثير من العرب المغتربين بعد عودتهم للوطن «وإن متأخراً أحياناً» هو أن الحضارة لا يمكن أن تنسخ أو تُستعار من الخارج، وهو ما يتطلب العودة بأكثر من مجرد أفكار أو طموحات لا علاقة لها بالواقع المحلي.