إذا أقام اللهُ عليك عدْلَه، لَمْ تَبْقَ لك حسَنَةٌ تُثابُ عليها، كما قال يحيى بن معاذ، وإنْ أقام عليك فضْلَه لَمْ تَبْقَ لك سيِّئةٌ تُعاقَب عليها، أسأل الله أن يُعاملنا بفضْله، وقد اقتضَتْ حكمتُه سبحانه أنْ يقيم عباده في عالَم التكليف، فجعلَك أهلا للأمْر والنَّهْي، فَصِرْتَ قادراً على المخالَفة إنْ شئتَ، وعلى المعصية إنْ شئت، والمؤمن قد تَغْلبُه نفسُه فَيَصدر منه ذنبٌ وتُسوِّلُ له نفسُه المعصيةَ، والشأنُ فيك حين تُذنبُ، أنْ تستشعر خشيةَ الله تعالى، وبهذا تكون قد عظَّمتَ ربَّك، فليس الشأنُ أنْ يضيقَ نظرُك، فلا ترى إلا صِغر ذَنْبِك، ولكن الشأن أن تتَّسع دائرةُ نظرك، فتنظر إلى عِظَمِ شأْن مَن أذنَبْتَ في حقِّه، فهذا من إجلالك لله، فالشأنُ في المؤمن أنَّه لِمعرفته بجلال الله وشدَّة خوفِه منه، فإنَّه دائمُ المراقَبَة له، فيخشَى الله لأدْنَى سيِّئةٍ يتلبَّسُ بها، لأنه على يَقينٍ من تَلبُّسه بها، وهذا موضعٌ للحياء من الله، كما قال شرف الدين الصِّنْهاجي: (وَافاكَ بالذَّنْب العظيمِ المذنبُ ***خَجِلاً يُعنِّفُ نفسَه ويُؤنِّـبُ) فشدَّةُ خوف المؤمن من ذنوبه، تجعلُه يرَى صغائرَ ذنوبه كبائراً، يَراها تناديه: «أما تذكرُ فعلَك القبيح ووصْفَكَ الذَّميم» فيغلبُه الحياء من الله، فتَعْظُم المعصيةُ في عينه بعظيم قُرْبه من الله، فقد جاء عن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - أنَّ المؤمنَ يَرَى ذنوبَه كأنه قاعدٌ تحت جبلٍ يَخاف أنْ يقع عليه، ومثلُه قال أنس رضي الله عنه: (إنَّكم لتعمَلونَ أعمالاً، هي أدَقُّ في أَعْينكم مِن الشَّعْر، إنْ كنَّا لَنَعُدُّها على عهد النبيِّ صلى الله عليه وسلم من الموبقات) فمَن عَظُمَتْ عليه المعصيةُ فقد عَظَّم ربَّه، وعكْسُه بعكْسه، فَاستِصْغارُ الذُّنوب وقِلَّةُ المبالاة بها، مِن عَدَم إجلال الله، فما أسوأَ أنْ تغرق في المعاصي والآثام، وتقول: (الأمر سهْل، أَعْصي ثم أستغفر) فهذا سوءُ أدبٍ مع الله، ومع ما أنت عليه مِن سوء الأدب، فقد قابلَك اللهُ بعميم سِتْره وبعظيم فضْله، ففتح لك أبواب الأوْبَة إليه، فمن عرفَ ربَّه أدْرك أنَّ الله تعالى عفوٌّ يمحو الذنوب وآثارها، وأنه غفورٌ لا يتعاظمُه ذنبٌ أنْ يَصْفَح عنه، فإذا غلبك الخوفُ وحملَك على التوبة، أطْمَعَك الرَّجاءُ في قبول التوبة، ففي الحِكَم: (لا يَعظمُ الذنبُ عندك عظمةً تَصدُّكَ عن حُسن الظَّنِّ بالله تعالى، فإنَّ مَن عرف ربَّه اسْتَصْغَرَ في جَنْب كرمِهِ ذنبَه) فمَن نظرَ إلى بحر مِنَنِ الله عليه، لم تُصْمِتْهُ الإساءةُ إنْ أساءَ، فإحسانُه سبحانه لا يُكَدِّرُه شيء، فاللائقُ بك أيها القارئ الكريم أنْ تستشعر أَلْطافَ اللهِ بك، وتتفطَّن إلى مزيد فَضْلِه وامْتنانِه عليك، فتشهدَ كمالَ قُدْرته ونُفوذَ إرادته وإحاطةَ عِلْمه بك، فما أجمل أنْ يحصل لك مِن شدَّة المراقبةِ لِلَّه وغَلَبة الهيبة منه، ما يَجعلك تتخلَّق بالأدب معه، فتستحيي منه أن يراكَ حيث نَهاك، أو أنْ يَفقدكَ حيث أَمَرَك، وتخلع ثوبَ القنوط، وترتدي ثوب حُسن الظنِّ والرَّجاء، ورحم الله القائل: (يَا نفسُ لا تَقْنَطي مِن زلَّةٍ عَظُمَتْ*** إنَّ الكبائرَ في الغُفرانِ كَاللَّمَمِ) فكما كان الحياءُ أدباً مع الله، فإنَّ حُسن الظَّنِّ بالله كذلك مِن أَجْمل الأدب، واعْلَم أنَّ مَن أساء العمل صار قلبُهُ في وَحْشةٍ مِن ذنوبِه، فساءَتْ ظنونه، ومَن أحسنَ العمل أشرقَ قلبُه، فحَسُنَ ظنُّه، كما قيل: (أسأْتَ إليَّ فاستوحَشْتَ مِنِّي *** ولو أحسنْتَ آنَسَكَ الجميلُ) وهكذا يَسَّرَ اللهُ لعباده سبُل المِنَنْ، فمِن الناس مَن حَسَّن ظنه بالله، استسلاماً وتفويضاً، لِـما عوَّده ربُّه مِن جميل صُنْعه، ومِن عظيمِ ألْطافه، ومنهم مَن حَسَّن ظنه بالله، لِعِلْمِه أنَّ منازعَة تدبير الله لا تدفع قدَراً ولا تجلبُ رزقاً، ومنهم مَن حَسَّن ظنَّه بالله، لقوله تعالى في الحديث القدسي: (أنا عند ظنِّ عبدي بي) فيَظنُّ العبد بالله إجابةَ دُعائه، ويظنُّ به قبول توبته، ومِن لُطْف الله بالعصاة أنْ حرَّضهم ليُقلِعوا عن معاصيهم، حرَّضهم بكلامٍ غايةً في الرِّفق والرَّجاء، فقال: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا) بل وحرَّض المشركين، وهم على حالٍ عظيمٍ مِن قبيح الفِعال، أنْ يُقلعوا عن كفرهم ليفوزوا بالغفران، فقال: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ) رزقنا الله الفهم عنه.