لو قال لك أحد إن هذه الحضارة الغربية التي تصدر اليوم التكنولوجيا والفلسفة والعلم ونظريات حقوق الإنسان، وتعيش انسجاما سياسيا في مجتمعاتها تحسد عليه، وان الحرية التي يتشدق بها أصحابها، بنظريتها وتجربتها العملية، وبمجتمعها المدني القائم على احترام «الإنسان» وأخلاقيات العمل البناء في المجتمع، كل هذه المكتسبات الحضارية التي تعد حلما بالنسبة لمجتمعات «العالم الثالث». إضافة إلى أن هذه الحضارة الليبرالية ينظر إليها على أنها أقصى ما يمكن أن يصل إليه الإنسان، على حد مقولة نهاية التاريخ للمفكر الأمريكي فوكوياما، لو قيل لك ان كل هذه الحضارة مستقبلها قائم على نظرية المؤامرة، أي وجود العدو الخارجي الذي يترصد بها، أي بمعنى آخر ضرورة وجود العدو، حتى وإن كان مفتعلا، وإلا اختل نظامها رأسا على عقب.
هل تصدق هذا؟ أم تشيح بوجهك عن القائل؟ لأنه يقول ما لا يعقل، وربما لا تلمسه واقعا معيشا في تلك المجتمعات إن ذهبت لتعيش بينهم، بل قد تتعاطف معهم لأن المجتمعات المتخلفة تتكالب للقضاء على حضارتهم، التي هي الأمل المتبقي للإنسانية، وكل ذنبهم أنهم مجتمعات متحضرة تولي كرامة «الإنسان» اهتمامها فوق كل شيء، لأن حقوق الإنسان محور هذه الحضارة.
فهل أنت ضد الإنسان حتى تقف في وجه كل هذا التنوير، الذي يعطيك الحكمة على طبق من ذهب؟!
الان غريش في كتابه «الإسلام والجمهورية والعالم» يفند هذا حينما يبدأ الفصل الثالث تحت عنوان ـ ولادة خوف- بهذه الوثيقة التي تقول «الخوف نادر، أترى. الخوف الحقيقي ذاك الذي يمكننا الاتحاد معه، هو الخوف الذي يقترب منك إلى درجة يطهو فيها جلدك، هو الذي يدخل إلى الذاكرة ويدور فيها جيئة وذهابا ليل نهار. لكن هذه البضاعة ضرورية. ففي مجتمع حر هي الشيء الوحيد الذي يبقي الناس متحدين. فبلا تهديد أو عدو أو خوف، لماذا قد نطيع ونعمل ونقبل النظام القائم؟ صدقوني، إن العدو الجيد هو مفتاح المجتمع المتوازن».
لاحظ أنها تتحدث عن شيء وحيد يبقي هذه المجتمعات متحدة.. الخوف من عدو يهددها.!
أين ذهبت المنظومة الحضارية التي تقوم عليها تلك المجتمعات، التي خاضت لأجلها الثورات وقدمت التضحيات الجسام في سبيلها، لتصبح لها بمثابة صمام الأمان.
إنها دون وجود العدو الخارجي، لا قيمة لها.!
لست أنا من يقول ذلك، وإنما هو قولهم بالجملة والتفصيل.
وهذا ما يراه غريش كذلك، انها كانت هناك فزاعة تستخدم لتخويف الشعوب الأوروبية، اسمها الشيوعية وحينما انتهت بحثوا عن فزاعة جديدة يلوحون بها لمجتمعاتهم اسمها الإسلام العابر للقوميات، وأخرجوه إعلاميا بعنوان الإسلام فوبيا.
بل أكثر من هذا هناك دوائر سياسية ومراكز أبحاث في أوروبا وأمريكا تشتغل على اختراع الأعداء، فبعد سقوط الاتحاد السوفيتي كان هذا السؤال مطروحا في أمريكا على أكثر من صعيد.
هل يمكننا العيش من دون عدو؟!
وكان هناك قسم من اليمين الأمريكي ينافح في سبيل إيجاد الأعداء للولايات المتحدة الأمريكية، يساعده على ذلك الكثير من مراكز الأبحاث التي تمر بصعوبات مالية مع مختلف المؤسسات الاستخبارية والعسكرية، التي تخشى أن تفقد الكثير من وظائفها وحساباتها الضخمة، التي نمت وتضخمت في زمن العداء للاتحاد السوفيتي.
ناهيك أن هناك الكثير من المثقفين الأيديولوجيين الأميركيين، لا يرى سياسة الهيمنة وفرض القوة الأمريكية، كافية لحماية السلم في المجتمع الأمريكي، دون وجود أو افتعال عدو خارجي يهددها، ومن ضمن هؤلاء المثقفين (صموئيل هنتغتون) والمفكر إيرفينغ كريستول، ففي مقابلة نشرت لهنتغتون في عام 1993م قال فيها «في ظل غياب تحد إيديولوجي شامل، ستجد الليبرالية نفسها محكومة بالانحطاط، ويلتهم التجزؤ والتعددية الثقافية مجمل الأفكار والفلسفات التي تشكل وثاق المجتمع الأمريكي».
مثل هذه الحضارة كيف لها أن تشيع السلم في العالم، وهي تفتعل الأزمات مع الآخر المختلف عنها حتى لو كان ذلك على حساب حقوق الإنسان الذي ترفع لواءه وتقوم عليه حضارتها كما تزعم؟