في أنقرة، وفي القصر الجمهوري التركي عُزف السلام الملكي الوطني في القاعة التي أعدت لتكريم خادم الحرمين الشريفين وتقليده الوسام التركي. هناك كنت كمن يستمع للسلام الملكي لأول مرة وشعرت بأن روحي احتشدت فيها مشاعر كل مواطن سعودي ينتمي لهذه المملكة المباركة ويتحسس بعقله وقلبه مكانة وطنه وهيبته بين الأمم، وتأثيره في القرارات الدولية بعد سلسلة من التغيرات التي فرضتها المملكة على مجريات الأحداث؛ فرضتها بالحكمة والعقل أولاً وأخيراً منطلقة في ذلك من الدور المنوط بها بين المسلمين كقائمة على خدمة الحرمين الشريفين، ومن ثم انطلاقاً من أهميتها الإستراتيجية والاقتصادية في العالم. كانت تلك المشاعر كفيلة بثبات أقدامي على أرض القاعة بقوة وتمكين، وارتفاع هامتي بالفخر والعزة؛ فأنا أنتمي لوطن قوي يجابه الصعاب بقلب صلب وعقل مستنير وهدوء قل من يجيده على الصعيد السياسي. لم يكن هذا شعوراً تفردت به فجميع رفاق الرحلة كانوا كذلك وقد ظهر لي هذا من اهتمام الجميع بالتقاط صورهم الخاصة للحدث عبر هواتفهم الخاصة حتى بعض رؤساء التحرير رغم علمهم الأكيد بأن القاعة تعج بالمصورين من كل مكان، ولكن يبدو أنه تصرف فرضه ذلك الشعور الوطني العالي الذي يتعالى في مثل تلك اللحظات وكأننا جميعاً كنا نحاول تصوير مشاعرنا وليس ما كنا نراه أمامنا فقط.
في طريق العودة من اسطنبول كنت وبعض الزميلات نجلس في الطائرة متقابلات، وفجأة مالت إلي الأخت الكاتبة رقية الهويريني وقالت: كنت أنظر إلى حالنا هذا وأسأل نفسي من الذي جمعنا؟ ومن الذي جمع بيننا هنا تحديدا على متن هذه الطائرة؟ ولكنها لم تنتظر لأجيب فقالت فوراً: لقد جمعنا عبدالعزيز أولاً، ثم جمعنا العلم هنا ثانياً. راقت لنا فكرتها التي خرجت بها من لحظة تأمل فهي من القصيم في الوسطى وأنا أجمع بين القصيم والدمام في الشرقية وكانت لهجتي الدمامية محل استغرابها طوال رحلتنا، وكانت الدكتورة لبنى الأنصاري من المدينة في الغربية، وكانت الدكتورة منى آل مشيط من أبها الجنوب، جمع بيننا الملك عبدالعزيز - رحمه الله - أولاً ثم جمعتنا الدولة على متن تلك الطائرة لما توسمته فينا من خير لمرافقة خادم الحرمين الشريفين في زيارته لتركيا ضمن الوفد الإعلامي.
بدأت الرحلة يوم الإثنين وانتهت يوم الخميس كانت فيها التحركات سريعة ومتتابعة داخل أنقرة ومن ثم في أسطنبول، وهو أمر متعب جسدياً جعلني أتذكر المغفور له بإذن الله سعود الفيصل الذي قضى شطراً طويلاً من حياته على ذلك الحال، تنقلات سريعة ومتتابعة متحدثاً باسم بلاده مدافعاً عنها وموضحاً لسياستها، حاملاً هم وطنه وهم الوطن العربي والإسلامي في كل المحافل، حينها لم أملك سوى أن أسأل الله له الرحمة والمغفرة وأن يبارك مساعي كل رجال الدولة الذين يتكبدون كثيراً من العناء من أجل الوطن.
أثناء زيارتنا البرلمان التركي والتي كانت تهم بالدرجة الأولى أعضاء لجنة الشورى. أبدى أعضاء البرلمان التركي دهشتهم من وجود ٣٠ سيدة في مجلس الشورى السعودي وهو أمر فاجأهم وأبدوا اعجابهم بذلك، لأنهم لم يتوقعوا أن يكون للمرأة هذا الحضور القوي في الوقت الذي يروج فيه الحديث في الإعلام الخارجي زوراً وبهتاناً عن ضعف المرأة السعودية وسلب حقوقها؛ لأن ذلك الإعلام يركز على قضية واحدة فقط وللأسف شارك كثير منا في إشاعة تلك القضايا التافهة التي بدأ بعضها من باب السخرية كقضية قيادة (السيكل)، مثل هذا الأمر حدث مع كثير من قضايانا الداخلية التي أخذها الإعلام الخارجي على محمل الجد وصنعوا منها قضايا ضدنا. ما حدث في البرلمان أوضح لي كم نحن بحاجة للدبلوماسية الثقافية التي يجب أن نعمل على تنشيطها وألا نتركها بيد من توجه لهم دعوات خاصة ومغرضة ليعرضوا السيئ ويتركوا الجميل، أو يعرضوا ما يريدون تحديداً أن يعرض وتذكرت الخطاب الذي ألقته منال الشريف في منتدى الحرية بأوسلو والذي لم تقدم فيه سوى الجانب السيئ الذي عايشته هي في بيتها، ولم تكن تعرف أن البيوت الكثيرة الأخرى القريبة منها تختلف عن بيتها تماماً ولكنها لم تعرض ذلك الاختلاف بل عرضت رؤية من كان يعيش في قمقم وفجأة تحررت منه وتاهت في الطرق. لقد كانت تدرك تماماً أن من حضروا له يجهلون الجوانب الأخرى الإيجابية لأنها كانت تقفز في خطابها قفزات متعمدة تسيء للتاريخ ومجريات الأحداث. وإذا بحثنا مقابل ذلك عن خطاب دبلوماسي ثقافي يوضح الحقائق لم نجده للأسف.
أما ملح الرحلة فقد كان في حضور الشاب عضوان الأحمري الذي كان يبهجنا ويبهرنا بسرعة بديهته وتميز تعليقاته الطريفة التي لم تقلل من نباهته وقدراته الإعلامية وثقافته.