قبل ثلاثة عقود من الزمن لم يكن من السهل التنبؤ بالأثر السياسي والاقتصادي وحتى الثقافي الاجتماعي لجسر الملك فهد وإلى أي مدى يمكن أن يسهم في تعزيز التقارب الإستراتيجي التاريخي الذي يربط بين المملكة العربية السعودية والبحرين والتي أصبحت اليوم نموذجا واقعيا للعلاقات الخليجية العربية.
صحيح أن التواصل البحري عبر التاريخ بين الشواطئ السعودية والبحرين ومن ثم الجوي في وقت لاحق كان بحد ذاته كافياً لبناء صلات كبيرة بين الشعبين الشقيقين اللذين يجمعهما تاريخ كبير من العلاقات المتعددة والمصير المشترك والذي ليس من السهل اختزاله في عامل دون آخر.
ومع هذا فإن الجسر البري الذي جعل الانتقال من مدينة الخبر إلى المنامة رحلة لا تختلف عن التنقل بين مدن المنطقة الشرقية الأخرى أو الذهاب من مطار البحرين إلى مدينة الرفاع، هذا التغيير الجغرافي عزز كثيراً من التكامل الإستراتيجي السياسي الاقتصادي بين البلدين، والذي تجسد على أرض الواقع في إيجاد دور بري فاعل لدرع الجزيرة ضد التهديدات التي قد تتعرض لها البحرين.
وبالتوازي فإن الاستثمارات السعودية في البحرين تضاعفت بشكل كبير خلال العقود الثلاثة الأخيرة، وكذلك البحرينية للاستفادة لاحقاً من الملايين التي تعبر الجسر سنوياً في الاتجاهين، وتدفع بقوة شرائية جديدة للأسواق بصورة طبيعية لم يكن من السهل حدوثها قبل افتتاح الجسر.
استحضار هذه التجربة النموذجية في التكامل وترسيخ العلاقات الإستراتيجية المتعددة بارتباط بري جغرافي بين السعودية والبحرين يمكن أن يساعدنا في استشراف مستقبل الربط البري بين السعودية ومصر عبر جسر الملك سلمان، وما يمكن أن تقدمه استراتيجياً على جميع الأصعدة السياسية والاقتصادية والأمنية والثقافية الاجتماعية.
بالنسبة للسعوديين والبحرينين (وكذلك المصريون المقيمون في البلدين)، تبدو إمكانية تصور ما يمكن أن يفرزه مشروع جسر الملك سلمان من نتائج ملموسة أسهل بكثير من مهمة الأشقاء المصريين، وخاصة فيما يتعلق بتعزيز الاستقرار والرخاء في الحدود الشمالية السعودية ومنطقة سيناء وشرم الشيخ.
هذا التعزيز الإستراتيجي للجسر السعودي المصري يتعدى تحويل الحدود من منطقة طرفية بالمفهوم السيواقتصادي إلى منطقة مركزية فيما يتعلق بالاستثمارات والحراك الاجتماعي والتفاعل الثقافي بين بلدين يمتلكان موروثاً تاريخياً يتطلب مبادرات كبرى على هذا المستوى، لبناء مستقبل أفضل لمنطقة الشرق الأوسط.
هذا المشروع الذي يدعم من التكامل الإستراتيجي بين السعودية ومصر كان يفسر طرحه في زيارة كبيرة المستوى وفي سياق تفاهمات يتطلبها المشروع الإستراتيجي سواءً بتعيين الحدود البحرية أو تقديم تصور لحزمة استثمارات اقتصادية يتطلبها المشروع والمناطق المحيطة به تحديداً.
أما السياق الإستراتيجي الثالث الذي كان لا بد وأن يكون له أثر يرتبط بالمشروع فهو تعزيز التكامل الأمني بين البلدين وعدم إغفال كون هذا الربط البري يعني أكبر استثمار اقتصادي مشترك بين بلدين عربيتين بالقرب من الحدود الإسرائيلية، وتعزيز التواجد الحضري في هذه المنطقة.
هذه السياقات التي طرحت المبادرة خلالها للأسف تم اختزالها من بعض المؤرخين أو السياسيين في الصحافة المصرية في تفسيرات غير منطقية ولا تستند لا على سلوكيات الدولتين عبر التاريخ ولا على مصالح البلدين الشقيقين في مرحلة مهمة من تاريخ المنطقة حول الجزيرتين بالرغم من الشواهد والاعترافات التي قُدّمت في هذا الإطار ونشرتها الصحافة المصرية.
تفسير مشروعات إستراتيجية كبرى مثل الجسر السعودي المصري وكذلك تعيين الحدود أو الاستثمار في المنطقة المجاورة لا بد وأن يُطرح في وقت واحد لضمان نجاح هذه المبادرات بصورة متوازية، وهذا بالضبط ينطبق على ضرورة قراءة الاتفاقيات السعودية المصرية الأخيرة ليس فقط من منظور السياسة أو الجغرافيا أو التاريخ أو الاقتصاد أو الأمن أو الروابط الدينية فقط، وإنما بكل السياقات مجتمعة.