التحول لمجتمع صناعي لن يتحقق بالتمني، بل لابد من: أولاً "اقتلاع" أملنا الطويل والعريض في النفط. أقول هذا مدركاً ان مجرد طلب "اقتلاع" النفط يصيب الكثيرين بالقلق، لكن، لكل أجل كتاب. ولا أقول أبداً إن ساعة النفط قد دنت، بل كل ما أقوله إن علينا الاستعداد استعداداً جاداً لتلك الحتمية التي تَقرب أو تبعد، لكنها قادمة إما لنفاد النفط، أو الأقرب لتضاؤل قيمته أو لتنامي نفقاتنا أو لكليهما! وهكذا لابد من التعامل مع الواقع المتغير. ولعل ما اكتشفه المخططون السعوديون منذ عقود أن الخيار الاستراتيجي هو التصنيع، ولذا نجد أن جهوداً جادة أوجدت منظومة متكاملة لدعم دور التصنيع في الناتج المحلي الإجمالي في البلاد، وقد حقق نتائج لاشك.
لكنه كان تصنيعاً لا يقوم على المنافسة والتوسع، بل على أهداف "قنوعة" بما توفره السوق المحلية من فرص، كما أنها أهداف أقرب ما تكون للميل والتحيز للصناعات التقليدية. ولعلنا حالياً بحاجة لدفع التصنيع خطوات بحماس، ليستفيد من الطلب المحلي من جهة والسعي للاستفادة مما توفره السوق العالمية من فرص تصدير، وثالثاً ما تبدعه أذهان وجهود المبدعين والرياديين من شبابنا، ورابعاً من تحسين منافسة الاستثمار المحلي ليصبح منافساً لا يقاوم يستقطب المستثمرين الأجانب.
ولابد في هذا السياق من الحديث عن كيفية تحويل الطلب المحلي الذي يُشبَع عبر الاستيراد إلى إشباعه عبر التصنيع محلياً، وهذا ما يسمى الاحلال محل الواردات. وهذا الأسلوب لا شيء جديد فيه، بل هو مغرق في التقليدية باعتبار أدبيات التجارة الدولية، فليس أقل من أن يستهدف ما تصنعه محلياً ما تستورده من الخارج! بالنسبة لنا، هذا أمر ليس أولوية فيما يبدو! نعم، نحدث عن الاحلال لكن سوقنا مفتوح على مصراعيه، وفيه فليتنافس المتنافسون. وبالقطع، فإن الحديث عن اغلاق الأبواب والحماية حديث متأخر وغير ملائم الآن بعد أن أصبحنا أعضاء في منظمة التجارة العالمية. لكن لا يعني هذا أن نيأس، بل يمكننا استقطاع حصة أكبر من السوق المحلية عبر جعل منتجاتنا منافسة، سعراً وجودة وخدمات ما بعد البيع، وكذلك الاحلال محل الواردات التي لا تشملها اتفاقات منظمة التجارة العالمية.
وفي هذا السياق، مهمٌ القاء الضوء على مبادرة تصنيع المواد وقطع الغيار للقوات المسلحة، والتي يستورد جلها من الخارج وفقاً لعقود، وقد استمر هذا الأمر سنوات متتابعة. وخلال هذا الأسبوع نظمت وزارة الدفاع معرضاً وبرنامجاً علمياً لتصنيع المواد وقطع الغيار، واحتوى المعرض على أصناف محددة مع شرح لكل قطعة وعدد القطع المطلوبة، كما أن الوزارة استقطبت للمعرض عدداً من الشركات الرائدة محلياً وعالمياً.
وخلال إدارتي للندوة في يومها الثالث (أمس الأربعاء) طرح وزير التجارة والصناعة جهود الوزارة في تسهيل دخول المستثمرين في قطاع الصناعة من خلال توفير منظومة تتصل بالترخيص وتوفير البنية التحتية الصناعية والتمويل الصناعي المُيَسر، وبين نائب هيئة الأركان العامة أهمية مبادرة وزارة الدفاع لتصنيع المواد وقطع الغيار في أن لها أثرا اقتصاديا متعاظما كما أنها تدعم استقلال القرار الوطني، وتناول محافظ الهيئة العامة للاستثمار الحجم الكبير للإنفاق الرأسمالي للبلاد، والذي قدره بنحو مليار ريال يومياً، كما قدر أن المحتوى المحلي منه لا يتجاوز 20 بالمائة والباقي يجد طريقه لخارج دائرة الاقتصاد السعودي. فيما بيّن محافظ المؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني أهمية اعداد الكوادر السعودية المواطنة للاستفادة من مبادرة تصنيع قطع الغيار محلياً، وأوضح رئيس المؤسسة العامة للصناعات العسكرية أن هناك متطلبات للاستفادة من هذه المبادرة وهي: توحيد المواصفات، وترميز المنتجات على المستوى الوطني، وإيجاد تشريع بعدم إرساء أية عقود إلا بعد استيفاء اشتراطات المحتوى المحلي. وفي الندوة عرض الرئيس التنفيذي لبرنامج تطوير وزارة الدفاع تجارب الدول في هذا المجال ولاسيما تركيا وكوريا وكيف أنها بدأت متواضعة وأدت في سنوات قليلة إلى احداث نقلة نوعية، وبين رئيس البرنامج الوطني لتطوير التجمعات الصناعية أن ثمة قطاعات يمكن استهدافها كالصناعات العسكرية وصناعات الدواء لما لها من أثر، إضافة لقيمتها الاقتصادية الكبيرة.
مبادرة ما برحت تراوح سنوات، ولعل الوقت قد أزف لتحويلها لمبادرة وطنية، تسند للمؤسسة العامة للصناعات العسكرية للدفع بها يوماً بعد يوم، فنجدها واقعاً يولد فرص عمل لشبابنا، وفرص استثمار للمصنعين محلياً وعالمياً، ويساهم في خفض قيمة وارداتنا، ويرفع قيمة صادراتنا، فيبقى "دهنا في هريسنا".