حينما تكون محبوسا في ذهنية ما، ولا تستطيع أن تفارقها أو ليس لك المقدرة أن تتجاوزها، وتقول بعد ذلك إنك تستطيع التمييز بين رأيين متضادين، وتختار بعد ذلك أي الرأيين هو الأصوب، فأنت تدعي ما ليس لك، وذلك بعد تلطفنا بالحكم عليك، لنحفظ ما تبقى لك من ماء وجهك، وإلا فأنت حسب رأي أهل المنطق لست ممن يرجى منهم رأي، أو يمكن أن يمر عليهم مرور الكرام.
لماذا؟ لأنك شخص دغمائي، لا ترى إلا بعين واحدة، سواء علمت بذلك أم لم تعلم، ولديك نوع من انفصام الشخصية مؤثر على استقلاليتك، لهذا أقولها جازما إنك قد لا تعلم بأن الرأي الحقيقي يعبر عن استقلالية صاحبه، أو أنك مدرك ولكنك مؤثر للسلامة، في مقابل تحمل تبعات ما قد يأتيك من استقلالية رأيك.
ولهذا وبصريح العبارة الواضحة دون أدنى مواربة، أنت لست ممن يبحث عن الحكمة، أيا كان قائلها، ولا أظنك مررت على مقولة الإمام الشافعي "رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب" و إن مررت عليها قد تجد قائلها أطلقها من موقف ضعف وليس قوة، فلو كان معتزا برأيه لما أطلق هذه العبارة المتجردة من نزعة الاعتزاز بالأنا.
لماذا قرأت هذه المقولة بهذه الطريقة السفسطائية أو أكرهت نفسك على هذه القراءة؟ لأن شبح الذهنية الذي بداخلك لا يقبل، أن يقر بخطأ، أو أن يتنازل عن رأي، حتى لو أدى تمسكك به إلى أن يهوي بك إلى واد سحيق ليس له قرار، في مقابل أن تأخذ بالحكمة التي يبحث عنها، كل من تحرر من دغمائيته.
والأخطر من كل ذلك أنك لا تعلم أنك تعيش ما يمكن أن يطلق عليه فوبيا المعرفة المتجددة.!، القلق الذي ينتابك من كل رأي مخالف لما أنت عليه، فأنت حفاظا على هذه الذهنية، تمعن دون أن تعلم بسلب ذاتك كل ما يمت لاستقلاليتها، لهذا تسخر كل طاقاتك لحماية هذه الذهنية، ظنا منك أنك تحافظ على خصوصية ما حتى لو كان ذلك على حساب عقلك، أي ما يعبر عنه أحيانا لدى بعض الباحثين بأزمة العقل الجمعي، فخشية من أن يفهم أي رأي منك بأنه تمرد على ذلك العقل المحصن بقبول الأكثرية، في مقابل رأي متجرد، لا يحمل قاعدة الأغلبية، تؤثر أن تهدر كل ما يمت إلى عقلك بصلة بحث عن السلامة!.
لكن السؤال الذي قد يبدو أكثر وضوحا ويبحث عن إجابة له الآن:
هل هذه الذهنية تحافظ على العقل الجمعي، ومن ثم تضعه في مصاف صناع الحضارة اليوم؟
هذا السؤال يكشف حقيقة المسكوت عنه، فإن قلت نعم، فعليك أن تأتي بدليل حتى ولو كان يتيما، وإن قلت لا فلماذا تقاتل في سبيل بقاء شيء لا سبيل إلى الحفاظ عليه!!.
مشكلة هذه الذهنية أنها يشكلها أفراد ليحكموا على كل من يأتي بعدهم بوقوف حركة التاريخ، فليس هناك زمن للحاضر أو للمستقبل، إنها فعل لماض مستمر، يحتاج لمن يدفع بعجلة التاريخ ليتجاوزه.
ومن هنا تجد أن هذه الذهنية لا تحافظ إلا على شيء واحد، على استمرار ماكينة هدر الطاقة في المجتمع سواء شاء حراسها ذلك أم لم يشاؤوا، فالمقدمات تجعلك تتنبأ بالنتائج، كما يقول أهل المنطق.