شركات مقاولات التشييد والبناء جزء مهم في منظومة القطاع الخاص بكل فروعه، الصناعية والتجارية والبناء السكني والتجاري والحكومي. وتمثل شركات المقاولات طرفاً أساسياً في عملية التنمية من خلال علاقتها المباشرة مع الوزارات والهيئات الحكومية، عبر عقود تقوم على شروط متفق عليها بين طرفين يفترض أن يكونا متساويين في تحمل مسؤوليات مشتركة، وفق معايير عادلة للطرفين، ابتداءً من ترسية المناقصة ومروراً بالإجراءات المعروفة من توقيع عقد متكافئ الشروط، ومروراً بكل ما يترتب على هذا العقد من حقوق وواجبات، وصولاً إلى التسليم الابتدائي النهائي للمشروع، واستلام كل ذي حق حقه.
هذه العلاقة بين الأجهزة التنفيذية للدولة وشركات المقاولات بما في ذلك الشركات من الباطن والتي تبلورت خلال العقود الأربعة الأخيرة إلى يومنا هذا، لم تكن في غالب الأوقات علاقات صحية، بل يمكن القول إنها لم تكن في يوم من الأيام تقوم على ثقة متبادلة بين الطرفين، بل كان الشك المتبادل حاضراً، ونتائجه مضرة للطرفين، وعدد المشاريع المتعثرة والمسحوبة من بعض المقاولين معلنة في الإعلام الرسمي.
ولأن الأسباب تطول لأن الحجج المقدمة من كل طرف غير معلنة التفاصيل، فقد يكون من المفيد الحديث عن ما هو معروف حول بعض جوانب المشكلة، وتحديدا محتوى العقود وشروطها، والأسعار المتفق عليها وأشكال الرقابة والمتابعة وبعض "التقاليد" المتبعة لدى الطرفين في أشكال التعامل حول الاحتياجات المشتركة التي يقتضيها تنفيذ العقد في المدة المحددة وتسليمه وفق المواصفات الفنية الواردة في كراسات المناقصة والعقد.
ولأن العقود وشروطها يمكن الإطلاع عليها بسهولة؛ يمكن القول بأن الخلل واضح في مفهوم العقد وشروطه القائمة على الثقافة السائدة، والقائمة بدورها على أن الطرف الأول -مالك المشروع- هو السيد المطاع في كل شيء؛ لأنه في رأي كل الأجهزة الرسمية محصن من الاحتياج، وأن المقاول هو صاحب الحاجة والشروط لا بد أن تكون "قاسية" قدر الإمكان.
من يقرأ عقدا واحدا لا يحتاج لقراءة عقود أخرى؛ لأن العقود مستنسخة من حقبة "الكربون". في هذه العقود المستنسخة، يمكن القول بدون مبالغة بأن أكثر من 90% من الواجبات يتحملها الطرف الثاني أي المقاول. أما العقوبات من غرامات وخلافه، فلا مكان فيها للطرف الأول أي المالك فهو من حيث المبدأ وكأنه منزه عن الخطأ. حتى إذا كان الموقع غير جاهز لمباشرة كتابة محضر بذلك، فالعبرة في مدة العقد وهذا ما يتكفل الاستشاري بتفسيره بتخفيض الغرامة.
أما الشروط الموغلة بالتفاصيل حول "تقاعس" المقاول، فالحق يقال بأنها لا تصل إلى السجن تعزيراً. وللوصول إلى أن ليس ثمة مبالغة، يمكن لأي متابع الاطلاع على أي عقد لبناء أي مشروع حكومي ليكتشف الانعدام المطلق للثقة في ظاهر النصوص، مع أن الخفي في العقلية السائدة خلف النص أكثر ضرراً. وفي مجال الأسعار، لا يزال مفهوم أولوية السعر المنخفض هو ما يحكم الترسية رغم ما يقال عن ضرورة الأخذ بالمواصفات التي والحق يقال في حالات خاصة.
قبل حوالي ثلاثين عاما قدمت وزارة التخطيط مشروعاً يجعل من الإدارات الهندسية العتيدة جهة وضع ميزانية المشروع بناء على سعر عادل بنسبة ربح معقولة كما تفعل أرامكو، لكن المشروع دفن ولا يزال الوضع "على طمام المرحوم".
في مجال الرقابة والمتابعة، الأوضاع متشابهة من حيث مسؤولية المقاول. عندما يباشر المقاول العمل وفق مخططات المشروع المراجعة من طرفه، يتولى المسؤولون التفنن في تقديم التغييرات التي تصل أحيانا إلى تغييرات أساسية يطلب من المقاول تغييرها في المخططات وإرسالها للاعتماد حيث يتولى كسالى الإدارات الهندسية تأجيل إنجازها ويتولى الاستشاري إرسال الإيميلات التي تلوم المقاول وتذكره بالغرامات. هذه الهيئات الرقابية الهندسية إما أنها غير مؤهلة أو متكلسة بيروقراطيا.
وفي مجال الحقوق والواجبات، وأولها: الإسراع في دفع مستخلصات المقاول، وأمام بعض الظروف الطارئة، أقدمت وزارة الشؤون البلدية على خطوة جريئة في الشهر الماضي، وأعفت المقاولين من الغرامات ومددت مدة المشاريع، ولم تتحدث عن كيفية استمرار العمل.
وفي مجال احتياجات المشروع للعمالة، فالصورة النمطية السائدة هي أن بعض هؤلاء المقاولين همهم الفيز ومحاربة تشغيل السعوديين.
هذا غيض من فيض، في وقت تنادي القيادة السياسية بإعطاء دور متميز للقطاع الخاص في الانعطافة الاقتصادية الجديدة.
أما الفساد الذي يجري الحديث عنه فهو موجود عند البعض في طرفي الشراكة، التي لا بد من إعادة النظر بحزم في جل مكوناتها؛ دفاعاً عن المقاولين؟ نعم، ودفاعاً في الأساس عن الدولة.