تجاهل التعليق على الأحداث المثيرة للجدل أو الأخبار غير الجيدة، دائماً ما ينتهي بنتائج سيئة، تفوق حتى الاعتراف بالمشكلة وتحمل مسؤوليتها أمام الجمهور، خاصة بعد الانفتاح الكبير الذي أحدثته وسائل التواصل الاجتماعي، وسهولة الحصول على أخبار غير موثوقة من مصادر أجنبية.
لنضرب مثلاً بما يحدث من حين لآخر في سوق الأسهم السعودية، فيمكن ملاحظة أنه في أعقاب تطمينات الخبراء الذين تستضيفهم الفضائيات المشاهدة، حتى وإن استندت إلى قراءة منطقية بعيدة المدى عادةً ما تحفز مزيد من الانخفاضات بعد أن تم برمجة المزاج العام على مدى شهور، عبر وسائل الاتصال غير التقليدية، على ربط السوق بالمؤشرات السلبية المحلية أو العالمية بصرف النظر عن أثرها الاقتصادي.
هذه الحالة من التشكك تجعل التفسيرات الإيجابية التي تُطرح تبدو خارج السياق ما يزيد أزمة الثقة بين المتداولين ومحللي السوق. في المقابل، فإن اعتماد بعض الخبراء على إستراتيجية الإقرار بالمشكلة كما يفهمها المتداولون، حتى وإن كانت قاسية بعض الشيء، عادة ما تقلل حدة النزول في أوقات المخاوف وقلة الثقة.
لكن لماذا تبدو الأمور معاكسة إلى هذا الحد؟ وهل القصة لا تعدو كونها في سياق المثل القائل (السوق الهابطة لا ينفع معها شيء!) أم أن القضية تعبّر عن غياب لفهم واضح لسلوك الجمهور في سياق الأزمات؟ وهل كان غياب التعليق المنطقي حتى وإن كان سلبياً في أوقات حرجة سابقة خلف أزمة الثقة لدى المتداولين؟
لكي نضع الأمر في نصابه؛ سأستعير مثلاً آخر من عالم الاقتصاد، كنت قد أشرت إليه في مقال سابق، حول قيام هيئة الإذاعة البريطانية الـ (BBC) بعمل تحقيق صحفي كبير، اشترك فيه عدة مراسلين؛ لكشف تلاعب في الضرائب حدث في بنك HSBC البريطاني، وهو ما أحدث زلزالاً عالمياً تبعه عدة تحقيقات حول البنوك في أوروبا، وتساءلت هل فضحت الـ BBC أحد أهم بنوك بريطانيا؟
اليوم وبعد شهور من الحادثة، لا يزال البنك الذي قام في حينها بعدة إجراءات لترميم الثقة، يعتبر أحد أهم ثلاثة بنوك بريطانية، فما الذي حدث؟ تتبع مثل هذه الحالات يشير إلى أن الكشف عن الحقيقة من قبل الجهات المسؤولة والإعلام العام يعزز الثقة في الإجراءات الحكومية والإعلام المحلي بصورة مباشرة، ويعزز الثقة في القطاع الذي طاله النقد على المدى الطويل، بوجود قناعة في كونه تحت المحاسبة.
هذا التصرف لا بديل له إلا انتشار الشائعات لتفسير الثغرات التي لا يتحدث عنها الإعلام الرسمي ولا تعالجها بينات الجهات الحكومية المشرفة على الأسواق أو الخدمات العامة، ويوماً بعد يوم تتفاقم أزمة عدم الثقة في القطاع الإعلامي، بينما يتضخم دور مروجي الشائعات في وسائل التواصل الاجتماعي وكذلك المصادر الأجنبية.
هذا الواقع يشبه حالة المياه الراكدة، والتي تفوح منها رائحة كريهة من المستحيل تنقيتها بوضع ورود على جانبها، ولا يوجد حل لإعادة ثقة الناس فيها إلا بضمان حركتها، بمعنى آخر فإن الضريبة التي ستدفع في الوقت القصير نحو تغيير النموذج الإعلامي المحلي والانتقال خطوة في برامج العلاقات العامة الحكومية نحو المكاشفة؛ ستحقق على الأقل نتيجة هامة على المستوى البعيد وهي استعادة الثقة.
محلياً ودون أن أسمي، توجد شركات لا يمكن انتقادها، ولديها سلطات فرضتها المصالح الإعلانية، تفوق ما يوجد في أوروبا على الأقل، في حين أن الإعلام الرسمي لا يزال يصر على إعطاء مقتطفات إخبارية لا تحمل أية معلومات لتترك للمصادر الأجنبية ملء المحتوى الغائب، حتى ونحن نمر بموقف عالمي هام، تخوض فيه المملكة حروباً من أجل الحفاظ على هويتها.
هذا الخيار للأمانة، لا يخدم الإعلام المحلي، ولا الجهات التي تتوارى عن النقد العلني، ومهما تكن المبررات أو الفوائد الوقتية من إبقاء تلك الحالة، فإن الأيام ستثبت أن تعزيز الثقة لا يقدر بثمن.