لا يمكن الحديث عن العولمة بوصفها فقط نتيجة للتطور التكنولوجي، ترتبط بتعزيز الانتقال السلس للبضائع ورؤوس الأموال، عبر نشاط الشركات متعددة الجنسيات، وتتجلى في حرية انتقال المعلومات والأفكار، من خلال وسائل الاتصال الحديثة، إذ إن هذه الأمور، تحصل دون تبادل اقتصادي وثقافي متكافئ بين الأمم والشعوب، وهناك طرف مهيمن، يتحكم بحركة البضائع والسلع، وبتدفق المعلومات. الولايات المتحدة تتحكم في الأسواق، وتعيد صياغة قيم العالم، من خلال الترويج لثقافة «عالمية»، هي في حقيقتها، ثقافة محددة، يتم ترويجها ضد بقية الثقافات، حتى الأوروبية، التي يُفتَرَض أن تذوب في هذه الثقافة المنتصرة.
المفكر الفرنسي، جان بودريار، كان قد تنبه لحجم العنف الذي تمارسه العولمة، عبر الهيمنة الاقتصادية والثقافية، من خلال سعي العولمة إلى محاربة كل أشكال الاختلاف، وإبراز ثقافة عالمية موحدة، لا تمايز فيها بين الثقافات، ومطاردة كل تفرُّد أو تميُّز ثقافي، وعدم السماح حتى بالموت تعبيراً عن الاختلاف، كما يقول بودريار. العولمة تفترض وجود إنسان «طبيعي»، بلا هوية ولا خصوصية ثقافية، لا يكترث للارتباط بالأرض والثقافة، ويمكن تذويبه في ثقافة يتم افتراض تفوقها على باقي الثقافات، واستحقاقها للهيمنة العالمية.
ينشأ عن هذا النزوع للهيمنة الثقافية، مقاومة الثقافات المختلفة للذوبان في الثقافة المنتصرة، وهي مقاومة ترفض تلاشي الخصوصية الثقافية، والانصهار ضمن ثقافة واحدة مهيمنة، وتحطيم اختلاف الثقافات، والأمر هنا لا يتعلق بصراع الحضارات، بل بمواجهة أنثروبولوجية، بين ثقافة عالمية لا تمايز فيها، وكل شيء آخر يختلف عنها. مقاومة الخصوصيات الثقافية للتلاشي والذوبان تواجه العولمة بأشكال مختلفة، منها ما هو «لطيف»، مثل الفنون والإنتاجات الثقافية التي تعكس هوية ثقافية خاصة، ومنها ما هو عنيف، مثل أعمال العنف السياسي الموسومة بالإرهاب، وهي تمثل انتقام الخصوصيات الثقافية من محاولة محوها.
بالتأكيد، فإن مواجهة محاولات المحو والتذويب الثقافي لا تنجح باللجوء إلى العنف، وعليه، فإن المطلوب فيما يخص الثقافة العربية، التي نرغب في أن تحافظ على خصوصيتها، هو تعزيز مظاهر هذه الثقافة، والتأكيد على خصوصيتها، في الوقت نفسه الذي يتعزز فيه الاتجاه للتحديث والتجديد في خطابنا الثقافي، كما في كل مجالات حياتنا. لابد هنا من أخذ حاجتين في آنٍ واحد: حاجتنا إلى التحديث والتجديد، والدخول بشكل فاعل في عصر العلم والتقنية، وحاجتنا إلى المحافظة على خصوصية ثقافتنا في مواجهة نزعات الهيمنة الثقافية، التي تروج لها آلة الإعلام الغربية الضخمة.
هاتان الحاجتان تتكاملان، إذ لا يمكن تخيل تحديث لا يبنى على وجود خصوصية ثقافية، وإلا فإن هذا التحديث لن يكون سوى ذوبانٍ في ثقافة الطرف الأقوى، كما لا يمكن تصور الجمود والتقوقع بحجة المحافظة على الخصوصية الثقافية. تحدي العولمة يفرض تجديداً ثقافياً ودخولاً إلى عالم التقنية، يؤكد على الخصوصية الثقافية، ولا يجعل ثقافتنا مجرد مسخ مشوه من الثقافة المهيمنة.