«امرأة من أورانوس» رواية صادرة عام 2014م عن (المؤسسة العربية للدراسات والنشر) ببيروت للكاتب السعودي فوزي البيتي، وهي العمل السردي الثاني الصادر للكاتب بعد صدور مجموعته القصصية الأولى الموسومة بـ(الهوجاء التي رقصت) عن الدار نفسها.
وهي رواية أحداثها على لسان الراوية الرئيس المدعو (قحطان) في رسالة خطية طويلة جدا، كتبها (قحطان) نفسه بخط يده لصديقه الذي أطلق عليه اسم (سعيد) وهو يخاطبه بها.
ولكن من المؤسف – حقا – أن هذه الرسالة الطويلة، على الرغم مما تكبد كاتبها من عناء وضنى ومشقة فائقة نتيجة كتابتها لم يقرأها من كتبها اليه، الا وهو (سعيد) وهو الشخص المخصوص بها دون غيره، وانما الذي قرأها شخص آخر، هو رسول (قحطان) الى (سعيد) والذي حملها اليه لإيصالها من (المرسل) الى (المرسل اليه) حيث قرأها هذا الرسول أو (المرسال) فأرهقته قراءتها زهاء خمس ساعات متواصلة!!!
ويتضح ذلك لنا في الصفحات الأخيرة من الرواية، اذ يقول (المرسال) بعد فراغه من قراءته لتلك الرسالة مخاطبا كاتبها (قحطان) وهو يعيدها اليه مجددا:
«ان ما قرأته في هذه"الرزمة" كان عبارة عن "ماراثون" أرهقني بقراءتها دون أن يجيبني عن السؤال عنك، بل ان ما قرأته لم يكن الا كشف حساب من رصيد متأخر يجب الوفاء باستحقاقاته وعلى الفور، وكما تقول فان من كتبت اليها هذه الأوراق لن تقرأها، ومن كتبت اليه لم يقرأها بعد أيضا، فأنا لم أجد فيها ما أصبو اليه حقا، لم أجدك في أي موقع بها يجيبني عن سؤالي عنك، وانما بدا لي أن «سعيد» هو بطل هذه الرزمة ،فأنت لم تكتب شيئا عن نفسك سوى توصيف لذكريات عاصفة عارمة، كنت تلحن نغما أو أنغاما عن النساء، وان ما كتبته عن نفسك في هذه "الرزمة" أو هذا "الماراثون" يسهم في الاعتقاد أنك ملهاة ساذجة وأنك منسلخ عن الجذور، انك تمارس طقوسا خطيرة في تعريفاتك عن المرأة بلغة التصوف). الرواية:ص266+ص267.
وهذا – بدوره – مما يتفاجأ القارئ باكتشافه،في نهاية القصة، ويجعله – فعلا – يشعر بالحزن والأسى، نتيجة هرولته ولهاثه فوق سطور رسالة طويلة بحجم رواية يقارب عدد صفحاتها 300 صفحة، حين يدرك متأخرا أن من كتبت اليه هذه الرسالة لم يقرأها فعلا، وكأن القارئ هنا قد أصبح جزءا من هذه المأساة وتحمل وزرها، على الرغم من كونه ليس طرفا فيها – أساسا - وليس مخصوصا بقراءتها!!
كما اعتمدت الرواية أيضا على ما يعرف بـ (الزمن المقلوب) كما يطلق عليه النقاد هذا المسمى، كمصطلح أدبي يعني في فن الرواية والقصة تناول الكاتب للأحداث والوقائع الماضية، ومعالجتها بذاكرة حاضرة، أي العودة بالقارئ من حيث انتهى الحدث الى بداياته الأولى، ومراحل تطوره، وانتقاله تدريجيا من مكان وزمان معينين الى أمكنة وأزمنة أخرى.
ومع أن الرواية قد أنهكتها كثرة التهويمات النفسية، وتلك الاستغراقات الروحانية الشبيهة بممارسة رياضة (اليوغا) الاسترخائية، وتلبدت أجواؤها منذ بدايتها حتى منتصفها بنزعات تأملية، وطقوس (صوفية) و(رومانسية) سادرة فان ذلك كله قد أوقعها – لا محالة – في شرك هذيان نفسي محموم عائم، غير محدد الملامح، كان من شأنه تشتيت بؤرة انتباه قارئها، وتركيزه على ضرورة فهم ما تنطوي عليه مثل تلك التهويمات والاستغراقات من ايحاءات وتفسيرها، لفك رموزها وطلاسمها، الا انها في نصفها الآخر بدأت تخرج من عتمة الرؤية والوهم الى نور الحقيقة والواقع بكافة جوانبه وتفاصيلها.
أي أنها خرجت من (سيكيولوجيتها) المنغلقة على نفسها داخليا، لتدخل شخصياتها في صراع وسجال واقعي مع محيطها الخارجي: سياسيا وتاريخيا واجتماعيا وفكريا واقتصاديا.
وقد استثمر الكاتب في عمله هذا توظيف عناصر التراث ورموز الحضارات البشرية القديمة، كالآشوريين والسومريين والفينيقيين والبابليين والفراعنة واليونان والرومان، بالاضافة الى الحضارتين العربية والاسلامية، بشكل سليم، أقل ما يمكن أن أقوله عنه انه كان موفقا فيه الى حد كبير، مما ينبئ عن امتلاكه لمخزون ثقافي ومعرفي هائل.
فـ (أورانوس) أحد آلهة اليونان القدامى في (الميثولوجيا) الاغريقية القديمة الذي أطلق اسمه – فيما بعد – على كوكب (أورانوس) أحد كواكب المجموعة الشمسية – كما هو معروف – وسابعها في الترتيب من حيث بعدها عن الشمس هو رمز لتلك المرأة، باهرة الجمال، المعروفة باسم (لبنى) في الرواية، والتي أحبها (قحطان) بطل القصة، والشخصية المحورية فيها خلال لقاء عابر جمع بينهما فجأة، أو مصادفة، ودون سابق تخطيط.
وبعد هيام استمر فترة طويلة من العشق والوله المبرح الذي انتاب (قحطان) تجاه محبوبته (لبنى) فقد اختفت هذه المرأة من حياته فجأة بالأسلوب الفجائي نفسه الذي سبق أن ظهرت له خلاله لدى التقائهما لأول مرة ببعضهما ذات يوم حتى كانت بالنسبة اليه أسطورة من الأساطير الجميلة التي يشتهي أن يهيم بها دون أن يرغب في تفسير هذا الهيام، ومعرفة كنهه:
«فأنا أعشق الانصهار في تلك الحرارة التي تنبعث من لبنى، واكتوي بنارها حين تلفحني، بل وأفنى في رمزها،فقد كانت مخلوقا من هذه الحور وهذه الأساطير التي تختال في ثقة مطلقة، فلا أشتهيها الا أن تظل حورية حيث هي وأسطورة كما هي). الرواية:ص101.
ومن هنا يبدو لنا تأرجح شخصية (لبنى) بين الحقيقة والوهم، مما يوحي لنا بتوافق ماهيتها وكينونتها وخلقها مع الصفات (الفيزيائية) المجردة لكوكب (أورانوس) الذي حملت اسمه الرواية ككل، والذي استخدم في الأساطير اليونانية القديمة،كرمز جمالي، وتم اطلاقه فيما بعد كاسم لأحد كواكب المجموعة الشمسية، التي تعد رؤيتها بالعين المجردة أمرا صعبا للغاية.
ولقد كانت (لبنى) هكذا بالنسبة لـ (قحطان)، مثل (أورانوس) الذي يحس الناس بوجوده ويتشوقون اليه، وان كان ليس بإمكانهم رؤيته، على الرغم من ادراكهم بانه موجود – فعلا – ومما يعني أيضا أن عدم رؤيتنا للأشياء لا يعني أنها غير موجودة،بقدر ما يعني أن ذلك نوع من (القصور الذاتي) الناتج عن محدودية ادراك حواسنا لكل ما هو موجود حولنا من المخلوقات والكائنات.
ويؤكد الكاتب صفة هذا التشابه بين (لبنى وأورانوس) باستخدامه لحرف الجر (من) في مسمى الرواية على غلافها الخارجي(من أورانوس) وهي (من) التبعيضية التي تفيد بأن الأول جزء من الثاني أو بعض منه.
وهكذا كانت لأسماء الشخصيات الروائية في هذا العمل السردي دلالات رمزية، تتقاطع مع تاريخ الشعوب وثقافاتها وحضاراتها القديمة.
فـ (لبنى) مثلا – كما قال عنها ( قحطان) ذات مرة انها (اسم أثري من صحراء العرب)!!
و(قحطان) نفسه اسم عربي قح، يفيد معنى القحط والجدب، كما عرفت به الصحراء العربية من سمات جغرافية ومناخية قاسية. ولذلك اتفقت صفة لبنى (الصحراء) مع قحطان (الجدب) برؤية مختزلة تصف علاقة الحب المأساوية بينهما، وما اانتهت اليه من بؤس!!
وكذلك كانت الشخصيات الأخرى لها من أسمائها نصيب في دلالاتها مثل المرأة (بلقيس) التي أحبت ابن عمها (منصور) فالأول رمز لحضارة بلاد اليمن القديمة (مملكة سبأ) والثاني رمز للخلافة العباسية في (بغداد) و(نائلة) صديقة (لبنى) الذي يعني اسمها أحد أصنام العرب في الجاهلية كما هو معروف، وغير ذلك من الأسماء الأخرى.
ويندرج تحت (أورانوس) جغرافيا وتاريخيا أسماء لمدن عربية، ومدن أخرى من الحضارات البشرية العريقة، ذات الجذور الضاربة في أعماق التاريخ، جعلت منها الرواية مسرحا لوقائعها وأحداثها، وامتدادا للإرث الحضاري والمعرفي لشخصياتها، ومهدا لانتمائها حسيا ومعنويا لهذا الارث التليد الذي لا يمكن فصلها عنه، مهما كانت الظروف المحيطة، وتبدل الأحوال من زمن الى آخر!
ولذلك نجد أن كل شخصية من الشخصيات مرتبطة بماضي أسلافها، وما خلفوه من أثر في بلادهم القديمة، وأبرز مظاهر الحياة فيها.، وأنها ما زالت محافظة على ما يؤكد العلاقة بين ماضيها وحاضرها، بنوع من الفخر والاعتزاز، حتى كثر في الرواية ورود (الأسماء المزدوجة) لبعض الأماكن أو تلك المدن التي عرفناها في كتب التاريخ والتراث العربي القديم، مثل (زهرة المدائن والرافدين وأرض السواد) والمقصود بها (العراق)، و(سبأ) و(البلاد السعيدة) والمقصود بهما (بلاد اليمن) القديمة، و(أرض الكنانة) والمقصود بها (مصر) وغيرها.
وكأن الكاتب هنا يرسم خارطة تاريخية جغرافية مستحدثة لعالمه الروائي الفني الخاص به، الذي ليس بشرط أن يتوافق مع الواقع العالمي الحالي وجغرافيته الحقيقية، حيث جعل من (أورانوس)كرمز جغرافي وهمي كوكبا يلم شتات ما تناثر من مأساة شخصياته في أصقاع متفرقة من الأرض، وقصتها مع الحب ومعاناتها مع الحياة:
قال لها:
(أنا لست موسوعة يا أختاه، ولست عضوا منتميا الى احدى هذه الثقافات المتعددة التي تسمعين عنها، ولكنني مجرد شخص ينتمي الى الوطن، ويهيم عشقا بجميع أوطان "أورانوس").
فأجابته قائلة:
(وأنا لست منتمية الى هذا الثراء الباذخ الذي تراه، ان هذا الا مظهر زائف، فأنا انسانة عادية جدا، أنا انسانة مثلك تعشق جميع أوطان"أورانوس"). الرواية:ص96.