حين تسمع المطرب العراقي سعدون جابر يشدو أغنية (يا طيور الطايرة) أو أغنية (البارحة) ألا تختفي من ذاكرتك غربة أبي حيان التوحيدي التي تضرب بها الأمثال في ضراوة الغربة وسوادها؟ ألا تتحول الكلمات إلى شكل طائر يغرد على جميع الأشجار شجنا وتحسرا؟ ألا تعود إلى ذاكرتك نظرية (التطهير) الأرسطية لأنك ستشعر بأن النتوءات والأوحال التي في داخلك من بؤس الحياة المحيطة بك أخذت في الاختقاء يسابق بعضها بعضا؟
انظر إلى هذا السرب من القيم (التكافؤ- العدالة- المساواة- الحرية- الفردية- الديمقراطية- الواقعية- العلمانية- الأمان..) واعطف مثلها ألفا، ألا تشعر بأنها هي (الطيور الطايرة) التي قصدها سعدون والتي يناديها بحرقة الثاكلة أن تمر بأهله؟ بلى.. إنها هي.
والغريب أنك حين تنظر إلى الفئات في كل مجتمع على تعددها ستجد أن كل فئة تنادي (طيورها الطايرة) هل تريد أمثلة؟ حسنا.. انظر إلى الفلاسفة ستجد أنهم في كل عصر يطاردون سربا مختلفا من الطيور، فحين انفصلت الفلسفة عن الأسطورة كانوا يركضون خلف طيور ميتافيزيقية ثم حولهم وعيهم بالواقع إلى طرح بعض المفاهيم التي تمس الحياة الاجتماعية مثل مفهوم العدالة والفضيلة إلى وصولهم أخيرا إلى طيور حقوق الإنسان التي صادوا بعضها وما زالوا يركضون خلف طيور أخرى عصية على الشباك.
وقل لي: ماذا ينشد المصلحون؟
هل يطلبون أشباحا من الكواكب الأخرى؟ كلا إنهم يطلبون ما يروي ظمأ الواقع أن تكون في الناس المحبة وعلى الأرض السلام.. ولكن دون ذلك في جميع الأزمنة والأمكنة خرط القتاد ذلك الذي لا يقدر على خرطه إلا من نذر نفسه..
هل قرأت رواية نجيب محفوظ (اللص والكلاب)؟ ترى.. ماذا يريد اللص؟ إنه يريد أن يستظل بفيء شجرة واحدة من الغابة.. أن يصطاد طيرا واحدا من الطيور التي تملأ الأفق.. هذا الأفق الذي أصبح ملكا للطغاة والراتعين في ظلهم.. هذا ما يريده.. إنه شيء بسيط ولكن الكلاب سوف تنهش لحمه قبل أن يصل إليه.
أما ما يطلبه إخواننا الشعراء فأظنك تعرفه، فهم يريدون صيدا سهلا.. يريدون من السامعين لهم أن تشتعل أيديهم بالتصفيق سواء فهموا ما قاله أو لم يفهموا.. ويريدون من اللغة أن تخلع أسمالهم التي تسمى (القواعد والنحو والصرف) وتركض إليهم عارية كما نشأت أول مرة.. وإلا فإنهم سيركلون المجاز والتجاوز ويسبحون في السراب.
أما أتباع (نيرون) فلهم طيورهم الخاصة، ولكنهم يقصون أجنحتها حتى لا تغرد وتنسى الطيران.