زرت تشيلي قبل سنوات في مهمة عمل، وهي تمثل شريطا يمتد على الحافة الغربية لأمريكا اللاتينية على المحيط الهادي. هالني التأثير العربي الواضح هناك، فشريحة مؤثرة من السكان تنحدر من أصول عربية، ولاسيما من بلاد الشام. ولا يقتصر هذا على ذلك البلد الذي تنتشر فيه مزارع الموز ومناجم النحاس، بل يبدو أن لدول أمريكا اللاتينية سحنة عربية لن تخطئها العين. وعندما طرح الرئيس البرازيلي السابق دي سيلفا فكرة قيام تكتل بين الدول العربية ودول أمريكا اللاتينية ساق انحدار أعداد مهمة من أصول عربية كأحد مسوغات التقارب بين الكتلتين العربية واللاتينية.
انطلقت أول قمة عربية- لاتينية قبل عشر سنوات في البرازيل، فالبرازيل هي صاحبة المقترح في الأساس. كأحد المتابعين لم يتضح لي في البداية نقاط التلاقي بين الكتلتين، او بتعبير أدق لم أكن أظن أنها ستفضي للكثير، فالسياق الجغرافي متباعد والأجندة السياسية متباعدة باعتبار أن بعض دول أمريكا اللاتينية هي من بين الأكثر تطرفاً لليسار، وفوق ذلك فالصلات الاقتصادية تقتصر على تبادل تجاري لسلعٍ بعينها، ولاسيما الأغذية.
لعل من المهم أن نتذكر «أسبا»، مشروع تكتل جديد بين المجموعتين العربية واللاتينية، فالمسوغ الأهم هو المبادرة الأمريكية الجنوبية التي تقول: علمونا لغتكم، هم من أخذوا قصب السبق، وطلبوا «القرب» منا. لا شك أنها فرصة تستحق رعاية وتجاوبا عربيين؛ لاعتبارات متعددة؛ فسياسياً بوسع الكتلتين أن تنسقا مواقفهما في المحافل الدولية لاسيما في الأمم المتحدة ومنظمة التجارة الدولية، بل وحتى في مؤسسة كصندوق النقد الدولي التي تطالب الدول النامية بإصلاحها وإعادة هيكلتها، وهذا أمر تطرحه البرازيل والمملكة باعتبار أن ثمة منظمات دولية تأسست قبل أكثر من نصف قرن، وأن الأوضاع العالمية قد تغيرت جذرياً مما يستوجب إعادة الهيكلة لتأخذ الدول الناشئة والصاعدة فرصتها المستحقة.
و«أسبا» ليست مجرد قمة تلتئم كل ثلاث سنوات، بل لها هيكلية من الاجتماعات الوزارية والمتخصصة للملفات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبحثية العلمية والمعلوماتية والاتصالات. كما أن لدول أمريكا اللاتينية إنجازات في مجالات عديدة، إذ تزخر بالجامعات والمراكز البحثية، التي تعاني –كما نحن- من عدم اكتمال منظومة تحويل المخترعات والبراءات إلى منتجات تعزز النمو الاقتصادي. كما أن من بين دول أمريكا اللاتينية قوى اقتصادية مهمة، تأتي على رأسها جمهورية البرازيل، وهي عضو فاعل في مجموعة العشرين، ورغم صعوباتها الاقتصادية الراهنة إلا أنها تمتلك اقتصاداً هائلاً حيث تتجاوز قيمة الناتج المحلي الإجمالي نحو 2.4 تريليون دولار (المملكة 750 مليار دولار).
ودون الاقلال من قيمة بقية الأبعاد، إلا أن هناك ما يبرر القول إن الملف الاقتصادي هو الذي بوسعه جعل التقارب بين الكتلتين واقعاً ملموساً، وقد تناول خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز –يرعاه الله- في كلمته الافتتاحية للقمة؛ إذ دعا القمة إلى تأسيس مجالس الأعمال وتشجيع التجارة البينية وتوقيع اتفاقيات لتجنب الازدواج الضريبي بين دولها. وبالفعل، فإن أجندة الاقتصاد والأعمال بين دول الكتلتين (34 دولة) حمالة للفرص وولادة للقيمة إذا ما وظفت وطورت، لأسباب عدة لعل من أهمها أن هناك قاسماً مشتركاً يرتكز إلى الحاجة لتنويع الاقتصادات بعيداً عن الاعتماد على الموارد الطبيعية (كالنفط) والأنشطة الاقتصادية التقليدية إلى تنمية القطاعات غير التقليدية ولا سيما الخدمات وبالأخص الأنشطة الاقتصادية المرتكزة إلى المعرفة. وكذلك يجمع بين اقتصادات الكتلتين الحاجة لرعاية المنشآت الصغيرة والمتوسطة وتوفير فرص الاحتضان والتمويل للرياديين، فجميع هذه الدول تعاني نقصا في فرص التمويل ولاسيما فيما يتصل برأس المال المخاطر، ولذا تجد المخترعات والبراءات حبيسة الدروج!
تمتلك «أسبا» أفقاً لتوسيع سوق الصادرات السعودية، وتمثل مجالاً للسعي لاستقطاب الاستثمارات والتقنيات والرياديين. وهذا يتطلب من الجهات الرسمية المعنية بالشأن التجاري والاستثمار مُدعَمَة بالقطاع الخاص وضع برنامج عمل لتعزيز التعاون الاقتصادي مع دول أمريكا اللاتينية، بما في ذلك التمعن في التبادل التجاري بين السعودية وتلك البلدان، إذ تقدر قيمة الصادرات السعودية لدول أمريكا الجنوبية (العام 2014)، بنحو 4 مليارات دولار، مقابل واردات المملكة منها تزيد على 6 مليارات دولار. وعند التمعن نجد أن التبادل التجاري يرتكز على النفط ومنتجاته والأغذية، ونلاحظ كذلك أن الصادرات السعودية لأمريكا اللاتينية لم تنم بذات وتيرة التبادل التجاري. «أسبا» تضع أمامنا فرصة اقتصادية جذابة تستحق التحرك الجاد بما في ذلك إرسال بعثات تجارية واستثمارية لعقد اتفاقات تحقق مصالح ملموسة.