الحقيقة عكس التخمين، واليقين عكس الظن، وهذا ما لمسته ولمسه كل الحضور الذين تواجدوا في ندوة عُقدت الأسبوع المنصرم في رحاب جامعة الملك فيصل، حيث أنصت فيها الحضور إلى صوت العقل والتجربة الحيّة، تحدث من خلالها شابان سعوديان وصلا مرحلة (مشروع إرهابي)، وكم كان حديثهما صادقا، يلامس شغاف القلب، ويهز شعر الأبدان بقوة مصداقيته.
أحد الشابين ذهب فعليا إلى اليمن وتاه وضاع وبات فريسة للتضليل، فتكشفت له خيوط الخدعة المسماة بالدفاع عن الدين، والتزليف والتزييف المنطوي عليه شعار اطردوا الكفار من جزيرة العرب، وسقطت أمام عينيه كل الهتافات التي أقنعته بالموت، تاهَ سبعة عشر يوما على الحدود اليمينة السعودية بحثا عن بارقة أمل تعيده إلى وطنه وأهله، بل تعيده إلى نفسه التي تاهت من صاحبها، وكم عانى وقاسى وتعرض للموت ألف مرة ومرة كي يجد طوقا للنجاة حتى نجح ولله الحمد.
الشاب الآخر جهز نفسه وسلم عقله وأعدّ عتاده، مخلفا من ورائه زوجة وثلاث زهرات يانعات، بعد أن كاد أن يبيعهم من أجل شعارات براقة وأكاذيب خداعة، فكانت النتيجة أن قُبض عليه في المطار قبل أن يعيش تجربة الشاب الأول بمرارتها وقسوتها.
كنت أترقب عن كثب استعراضهما الأسباب التي دفعتهما للانخراط في زمرة المغرر بهم، والدوافع التي جعلتهما يهبان نفسيهما إلى شياطين الضلال أو كادا، قال الأول: كان لمقاطع الجهاد على (اليوتيوب) أثر كبير في انسياقي وراء فكرة الجهاد بوصفها السبب الأول، أما السبب الثاني: فهو الأناشيد الحماسية الجهادية التي كانت تبث وتُباع، فلم أجد نفسي تحت ضغط هذين السببين إلا مستسلما لفكرة الموت والبحث عن الحور العين وما بعدها من مغريات، لكنني صدمت حين بحثت عن جهاد حقيقي لوجه الله فلم أجد غير الكذب والخداع والمصالح الشخصية، وما إلى ذلك من متاع الدنيا، فاسترجعت كل ما مرّ في لحظة صدق مع النفس فتنبهت أنني جئت إلى مهلكة وفخ لموت لا يشرف أبدا.
قال الثاني: لدي سببان دفعا بي إلى مغبة هذا الطريق، الأول: هو جمود العلاقة بين الوالدين، ثم تقصير العلماء، الحقيقة لم أدرك معنى جمود العلاقة بين الوالدين بالمعنى الدقيق الذي يقصده في هذا الحديث الشفاف للغاية، لكنني أفهم أن الأسرة هي بوابة العبور الأولى لفكر الشاب ومشاعره وشخصيته، وأكاد أجزم أن على عاتقها مسؤولية خطيرة في جعله شابا متوازنا في عاطفته وأفكاره، كما أفهم أن تقصير العلماء وضبابية دورهم في بعض المراحل التي تمر بها الأمة كفيل بصنع هذا الاضطراب في المواقف لدى بعض أفراد المجتمع، وخاصة الشباب.
ما يجعلك تقف مذهولا أن هاتين التجربتين انحرفتا وتطرفتا فكريا في مرحلة (الفيديو) وبدايات (اليوتيوب) ومرحلة (أشرطة الكاسيت)، فكيف لنا وأطفالنا وشبابنا يعيشون الآن مرحلة (السناب شات) و(التويتر) و(البلاي ستيشن)، وسرعة الانترنت وفظاعة برامج التواصل؟، هل أعددنا لهذه المرحلة ما يجابهها من قوة مضادة، هل فتحنا للشباب مجالات تنويرية موازية، بوسعها صد هذه التيارات وتحجيم دورها؟ هل لبينا احتياجات الشباب؛ كي يخرجوا من قوقعة الفراغ، وبوتقة البطالة، وهل صنعنا بنية فكرية متوازنة في ذواتهم، مسؤولية كبيرة تتضاعف يوما عن آخر على أسرنا ومدارسنا وجامعاتنا ومؤسساتنا، على الأقل كي نتمكن من تخفيف حدة العاطفة وإعلاء شأن العقلانية لدى شباب يمكنه أن يربط حزاما ناسفا لمجرد سماعه أنشودة جهادية حماسية، وهذه كارثة!!