مرت العلاقات العربية التركية بمرحلة ذهبية خلال نصف العقد الماضي على المستويات السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية والسياحية حيث استقبلت الدول العربية عودة تركيا لمحيطها الإقليمي بترحيب مُبالغ فيه، وصل لحد يمكن القول إن العاطفة تقدمت على العقل وهو - ربما - ما أوصل رسائل خاطئة وربما منح شعوراً لدى بعض الأتراك - وخاصة من مفكرى الحزب الحاكم - أن المنطقة العربية بحاجة ماسة لتركيا، فزاد الحديث عن العثمانية الجديدة والقول بأن لتركيا الحق في التدخل الناعم حيثما وصلت خيول الاجداد، وهو ما ذكره رئيس الوزراء التركي الحالي عندما كان وزيراً للخارجية في 23 نوفمبر 2009 بقوله: "يقولون عنا إننا العثمانيون الجدد.. نعم نحن العثمانيون الجدد" فنحن لدينا ميراثا آل إلينا من الدولة العثمانية ونجد أنفسنا مُلزمين بالاهتمام بالدول الواقعة في منطقتنا".
جاءت أحداث الربيع العربي لتزيد دغدغة مشاعر الاتراك المؤدلجين وليروا أن هذه الإحداث فرصة تاريخية لتعزيز النفوذ التركي في منطقة عربية مُضطربة ومخللة، وفجأة تحولت السياسة التركية من التعامل مع الدول العربية بندية وكدول مستقلة ذات سيادة إلى النظرة لها كتابعة والتفكير بطريقة آيدلوجية والمبالغة بالتدخل بالشأن العربي وعدم إخفاء دعم تيارات سياسية مُحددة ومحاولة إيصالها للسلطة، وانتهت أحداث الربيع العربي بفشل التوقعات الحزبية التركية الحالمة، وجاءت أحداث التغيير في مصر في يوليو 2013 لتتعرض "تركيا الحزبية" لصدمة كبيرة وخسارة على قدر أهمية مصر الاستراتيجية، فالقاهرة كانت تمثل قلب المشروع التركي المُتصور في المنطقة العربية وحاولت الحكومة التركية عدم الاعتراف بالسلطة الحالية في مصر ولم تدخر جهداً في تقديم تسهيلات سياسية وإعلامية ولوجستية لجميع مُعارضيها. في ظل هذه العلاقات المضطربة بين تركيا وغالب الدول العربية جاءت فكرة مُلتقى الحوار العربي - التركي والذي بدأ بمبادرة من منظمة التعاون التركي - العربي الدولية وهي منظمة مستقلة تأسست عام 2013، وتهدف لتشخيص مواطن الخلل في العلاقات العربية التركية بكل صراحة وشفافية وصدق ومحاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه والتقريب بين الشعبين التركي والعربي وتعزيز فهم الشعوب لبعضها وتغليب فكرة القبول بالآخر مهما اختلفت الظروف والنظرة للآخر، وبعث رسالة إلى أبناء الشعبين الشقيقين بأن التكامل والاحترام المتبادل هو الأفضل لكلا الشعبين بدل الفرقة والانقسام، وانتهاج أسلوب الحوار الهادف والبناء في مسار العلاقات العربية التركية.
خلال الأسبوع الحالي عقد مُلتقى الحوار العربي التركي دورته الثانية في العاصمة البحرينية "المنامة" وكان أهم فعالياته الجلسات الحوارية وعلى مدى يومين، وتضمنت التركيز على محاولة معالجة مواطن الخلل الحالية وتعزيز مواطن القوة في العلاقات العربية التركية، ودعم العلاقات لتحقيق التضافر والتكاتف بين الدول العربية وتركيا، وتوصيل صوت الملتقى إلى صناع القرار بحيث يتم إعادة تفعيل العلاقات العربية التركية على أسس صحيحة.
في ظل تزايد التهديدات وحجم الظروف السياسية الصعبة التى تواجه المنطقة العربية وفي ظل توتر الاوضاع الداخلية التركية وتحول الأزمة السورية كمُهدد صريح ومباشر للأمن القومي التركي فمن الحكمة سرعة مراجعة الأخطاء وتصحيح الخلل وإعادة نبض العلاقات العربية - التركية وفق أسس صحية وسليمة والحديث مع بعض بكل شفافية وصراحة ووضوح.
المأمول أن يلتزم الطرفان العربي والتركي بتأكيد وجود علاقات وفق منظور الدول والتعامل وفق مبدأ الأخوة الصادقة وحسن النوايا تجاه الطرف الآخر، والقبول بوضع صيغة جديدة للعلاقة تقوم على المنفعة المتبادلة ووقف اتخاذ أية مواقف غير ودية تجاه الطرف الآخر ومواجهة تهديدات المرحلة القادمة بما تستحق.