من سنن الله -سبحانه وتعالى- في خلقه أنه أوجد الاختلاف والفروقات بين بني البشر، فلا يوجد شخصان متطابقان تماماً، حتى التوائم المتشابهة في الشكل لا تتطابق في الصفات الخلقية وتتمايز بفروقات خاصة وتفاصيل لا يشاركها أحد فيها.
المبدأ في الخلق هو أن كل إنسان يتميز بصفات خاصة به في الشكل واللون والصوت والمزاج والتفكير وحتى في بصمة الإصبع أو العين، فهي فريدة ولا توجد بصمتان متماثلتان لشخصين في العالم، حتى في التوائم. ولكن هذه الفروقات الشخصية من أوصاف خلقية أو سمات نفسية تنصهر عندما يعيش الإنسان ضمن الجماعة، فلا يكون لها أثر بارز وملاحظ في مسألة التمايز، حيث إن الخطوط العريضة والمشتركات التي تجمع أفراد الجماعة تطغى على الفروقات الشخصية الذاتية، فيتلاشى أثرها شيئا فشيئا.
قد يتساءل البعض بين مرحلة وأخرى من عمره بعدة أسئلة لذاته، من قبيل، ماذا أريد؟ وما هي أهدافي الشخصية؟ كيف أكون متميزاً؟ هل يجب أن أتميز من الأساس؟ كيف أصل إلى التميز؟ وكل هذه الأسئلة وغيرها نابعة من حب الإنسان للتميز الذي فطره الله عليه، ولكن أكثرنا لا يسعى إلى التحرك بخطوات عملية مدروسة في سبيل التميز الذي يطمح إليه ويلبي قناعاته وحاجاته، ثم يجد نفسه شيئاً فشيئا يسلك مسلك الجماعة، التي من الممكن أن تكون زملاء العمل والدراسة أو الأصدقاء أو المجتمع المحيط وغيرها، ولا يجهد نفسه في السير منفرداً بما يتماشى مع قناعاته.
لعل الكثير منا غير مقتنع في داخله ببعض العادات الاجتماعية التي نمارسها، وخصوصاً ذات البعد المادي، ولكننا نمارسها؛ كي لا نشذ عن السلوك العام أو الممارسة العامة للمجتمع فقط، بالرغم من عدم اقتناعنا بها أو حتى في بعض الحالات عدم مقدرتنا المالية على تلبيتها إلا أننا في النهاية نقوم بها وبما يتبعها من تبعات مادية أو نفسية تفوق قدراتنا، وهذا فقط لكي لا نشذ عن الممارسة العامة، ولكي لا يتنقدنا ويلومنا المجتمع المحيط الذي يمثل قوة ضاغطة علينا ضمنياً.
أغلبنا يبني مخططاته المستقبلية بناء على النمط السائد من حوله، ومنذ نعومة أظفارنا تتبلور الصورة النمطية السائدة في أذهاننا حول ما ينبغي علينا فعله. فمنذ مراحل الدراسة الأولى نسعى إلى التفوق في المدرسة ثم دخول الجامعة في أحد التخصصات المطلوبة، سواء على الصعيد الاجتماعي أوالاقتصادي والتي تضمن لصاحبها الحصول على دخل ممتاز ثم نفكر في الوظيفة ونسعى إلى الحصول على أفضل الممكن ثم شراء سيارة بمواصفات يحكمها المحيط السائد ثم الزواج بالطريقة والصورة السائدة من حولنا، ثم شراء منزل والسفر في كل عام، والتبضع من أماكن وماركات معينة.. إلخ، ثم بعد هذا كله لا يشعر أكثرنا إذا فكر بينه وبين نفسه بأي تميز! ويشعر بأنه بالكاد يعيش حياة عادية لا تختلف عن السائد في محيطه، لذا فإنه لا يشعر بالإنجاز وهذا الإحساس حقيقي وصحيح مئة بالمئة.
يحكى أن أديسون سلم خطابا من إدارة مدرسته إلى أمه حين عودته من المدرسة، ولما قرأت الأم الخطاب صدمت بمحتواه ولكنها لم تقرأه له كما هو، وغيرت من فحواه وقالت له إن المكتوب بداخله هو: ابنك عبقري والمدرسة صغيرة عليه وعلى قدراته وعليك تعليمه بالبيت! بينما كان محتوى الخطاب الحقيقي عكس ذلك تماماً، حيث كان المكتوب به هو: ابنك غبي جداً ومن صباح يوم الغد لن ندخله إلى المدرسة! كثير من المتفوقين دراسياً وعملياً لم يصنعوا ما هو مغاير أو متميز عما هو سائد من حولهم، وكثير منهم لا تجد له أدنى أثر في مجتمعه يميزه، والعكس صحيح، فكثير ممن كنا نظنهم ونحسبهم من الفاشلين في مرحلة ما سواء دراسية أو عملية تميزوا وغيروا في محيطهم وفي بعض الأحيان صنعوا نقلات نوعية غيرت من حياة البشرية بأجمعها، لماذا؟! لأنهم لم يسلموا بالسائد تسليما كاملاً دون تفكير وقناعة شخصية.