طرافة الكتب في عناوينها وموضوعاتها نهج اعتاده الغربيون وحرصوا عليه، وهذا النهج يتطلب جهدا كبيرا وعملا بحثيا مضنيا، وقد وقعت يدي قبل فترة على واحد من هذه النوعية، كتاب يدهشك ويدغدغ فيك حس الانبهار والغرابة والإعجاب في آن واحد، وقد وضعه مؤلفه (توني روبنسون) تحت عنوان «أسوأ المهن في التاريخ».
الكتاب لا أراه مجرد رصد لمهن سيئة أو مقززة أو مُهينة حدّ القرف، إنما هو رصد للطبقية التي يعيشها البشر ويقتاتون عليها، كونه يسلط الضوء على فئة المسحوقين من الناس، أو العمالة البائسة بحسب تسمية مؤلف الكتاب، فكوننا نلتفت إلى ما يقوم به أناس كادحين معدمين مسحوقين فنحن دونما شك نعير المهمشين على أطراف حياتنا شيئا من العناية، ونقدم سجلا تاريخيا للوجه الغائب عن الضوء من حياتنا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ونتحسس من خلال مهن هؤلاء البؤساء ما بقي في إنسانيتنا من بقايا، هكذا أقرأ فكرة هذا الكتاب الممتع الطريف العصي على الباحث البليد، والراصد التقليدي.
أما الأطرف من هذا وذاك هو مؤلف هذا الكتاب، الذي هو في الأصل ممثل كوميدي ومؤلف ومذيع وداعية سياسي، اشتهر في المسلسل الكوميدي «بلا كادر» الذي تقدمه هيئة الإذاعة البريطانية.
لم يتحدث الكتاب عن الطبقات الباذخة، وأصحاب الأزياء الفاخرة بل عمن كانوا يقومون بأسوأ المهن على مر العصور، مهن لا يخطر ببالك أن بعض البشر يعتاشون منها، مثل (جامع بيض الغلموت)، ومطلوب منه أن يعلق جسده على ارتفاع مئة متر فوق البحر الهائج، ممسكا بحواف شديدة الانحدار ومغطاة بفضلات الطيور؛ ليجمع في سلته بعضا من بيض طائر الغلموت.
من أسوأ المهن على الإطلاق ما يسمى بـ (موظف الحمام المتنقل)، وهذه المهنة ابتكرها الملك هنري الثامن الذي وصف بالنهم في أكل الطعام وبضخامته، وكثرة الشحم واللحم في جسده المترهل، مما اضطره لاستحداث موظف يتبعه حاملا معه حمامه المتنقل معه أينما حل، وفي الكتاب وصف دقيق وعجيب لهذه المهنة البائسة بحق، ولإجراءاتها الأكثر بؤسا.
ومن العجيب أن بعض هذه المهن السيئة أو الحقيرة في نظر الكاتب لا تزال حاضرة في زمن التكنولوجيا والطفرة المعرفية، بالبلدان الفقيرة: كالهند وغيرها، ومن هذه الوظائف وظيفة حامل الكرسي المغلق، أي الذي يجر عربة تتكون من صندوق خشبي مثبت بين عمودين طويلين على كتفيه، ويتنقل بزبونه من مكان إلى آخر، وسط كل الأجواء المناخية الممطرة أو الحارة أو المغبرة وغيرها.
الظروف الطارئة التي تمر بالمجتمعات كفيلة باستحداث وظائف تتناسب مع طبيعتها، وهذا ما حدث أثناء فترة انتشار وباء الطاعون في أوروبا، فظهر ما يسمى بـ (ملتقط بيض القمل)، حيث وظف أحدهم لفحص الباروكة وجمع ما علق بها.
تصوروا معي أن آلة الكمان التي تشجي سامعيها بالموسيقى العذبة ارتبطت صناعتها بوظيفة من هذه الوظائف الوضيعة البائسة أيضا، حيث يتطلب العثور على أوتارها من أمعاء الأغنام، ابتداء من شراء الأمعاء ثم تنظيفها وفتلها وما يتربت بعد ذلك من مراحل مقززة بالفعل حتى تنتهي كمانا يشنف الأسماع من عذوبته.
يستعرض هذا الكتاب الطريف مهنا لا تعد ولا تحصى، بوصفها أسوأ المهن التي مارسها الإنسان، كالجراح الحلاق، وحارق الجير، وبائع الديوك، والشماس، والجلاد، صانع القباقيب، صانع الدبابيس، صائد الجرذان، صانع الملح وبائعه، جامع القش، وكلها تثير فضول القارىء للتعرف على تفاصيلها على اعتبار من غرابتها ودلالتها على قدرة الإنسان على الصبر والتحمل إن اضطر إلى ذلك، وتبقى الطرافة كما أسلفنا في قدرة بعض الدراسات على جذبك وهو ما سأستكمله في المقال القادم الذي سيقف بنا على حالة إدهاش أخرى بإذن الله.