أحد التحديات الكبيرة في العمل التنموي العام تطوير المنتج الثقافي للمجتمع، والذي كغيره من المنتجات الأخرى يحتاج إلى دراسة وتخطيط ومن ثم تسويق جيد وفي النهاية سيكون له عائد على المستويات الفردية وعلى الاقتصاد الكلي، هذا المفهوم مشوش جداً لدينا ويكفي تحليل مضامين النقاشات المجتمعية في سياق ثقافي صرف لفهم عمق المشكلة وسبب غياب المنتج الثقافي الحضاري العربي عن خارطة العالم.
في بيئتنا الثقافية يشبه الحديث عن الثقافة أحياناً الحديث عن الشخصيات الأسطورية فهي من جهة ليس لها وجود ملموس، وليست واضحة المعالم أو الأهداف، ومع هذا فإن الحديث عن تغيير شخصياتها أو توجيه النقد لها يقابل بغضب من عدد محدود جداً أدمنوا قراءة الأساطير ونصبوا أنفسهم أوصياء عليها.
وبمعنى آخر فإن المنتج الثقافي المجتمعي العربي ظل أسيراً سنوات طويلة لكثير من أنصار التقليدية (إلا فيما ندر) والذين قادوا الثقافة والإبداع إلى معزل عن حركة المجتمع وطموحات الشباب الذين يحملون روح التجديد، وزايدوا كثيراً في حصر الثقافة عن النظرية الاقتصادية التي تتحكم في مصير المنتج أياً كان نوعه وشكله وسياقه، والتي مكنت العالم من عولمة ثقافتها وتقديمها للبشرية.
الكتب الإبداعية السعودية على سبيل المثال في معظمها لا تُقدم بأسلوب عصري، وكلما كان الكتاب أكثر عمقاً وأرقى فكراً حرص كاتبه على تشفيره بطريقة تظهره أمام مدمني الأسطورة بأنه مثقف، وإن لم يتداول كتابه أحد، أو دُس ما كتبه بصورة أو بأخرى في التراب وائداً نتاجاً فكرياً قد يستفيد منه الآخرون.
قبل أيام قليلة قرأت إحدى الدراسات التي تعبر عن قلقها من إنتاج بعض الكتب العلمية من قبل دور نشر معينة هدفها فقط بيع الكتب على المكتبات العامة والجامعية، وبحسبة بسيطة فإن دار نشر تنتج كتاباً باللغة الإنجليزية في أمريكا أو بريطانيا حيث تخرج 50% على الأقل من الأبحاث العلمية في العالم، فإن هذه السمعة وعالمية اللغة كافية لتبيع آلاف النسخ للمكتبات الجامعية حول العالم دون أن تستحق تلك الكتب أن تنتج وربما دون أن يقرأها أحد.
هذه الحال بالرغم من سوئها أفضل بكثير من بعض المؤلفين في السعودية والذين ينتجون كتباً مخصوصة لبيعها على الإعلام والأندية الأدبية ثم تلقى ما تستحق (مثل هذا النوع من الكتب) بأن تقبع في غياهب الغرف المظلمة وفي أحسن حال توزع مجاناً في بعض المناسبات الفلكلورية التي تحييها المملكة هنا أو هناك.
هذا حال منتجنا الثقافي ونحن نعيش اليوم في قلب اهتمامات العالم حيث حقول النفط، والموقع الإستراتيجي، والحرمين الشريفين، وما يحيط بنا من أحداث ساخنة شمالاً وجنوباً تشغل اهتمامات وسائل الإعلام الدولية شرقاً وغرباً، لنبدو عاجزين عن تقديم إنتاج عالمي أو تقديم صوت من داخل هذه المنطقة الهامة من العالم.
وبعيداً عن الكتاب، لا يزال تعليم اللغة العربية واختباراتها وخدمتها عالمياً وهي التي تعد من أهم 5 لغات حية في العالم متخلفاً عن اللغات الحيوية الأخرى والتي ظلت في تواصل مع التقدم الحضاري وتكنولوجيا التعليم لخدمة تلك اللغات وتسويقها كمنتج عالمي وفق معطيات وضوابط اقتصادية.
الأمر لا يتعلق باللغة أو الإنتاج الإبداعي المكتوب وإنما يمتد لكل مضامين ومخرجات الإعلام والثقافة والنشر والفنون والسياحة وغيرها من القطاعات الحضارية التي لم تعد مجرد علومٍ اجتماعيةٍ تنظيرية فقط حيث تدرس اليوم في أهم مدارس الأعمال والإدارة والاقتصاد في الجامعات المتقدمة حول العالم لتوظيف المنتج الثقافي والحضاري في سياق اقتصادي تطبيقي يمكنه من الانتشار والقبول محلياً ودولياً.
هذه المدارس الأكاديمية الحديثة وفي استجابة لتوجهات العالم الحديث، تراهن بشكل كبير على أن المنتج الإنساني في صوره الحضارية لا بد وأن يتخطى اختبارات الاقتصاد وأحكام السوق ويصمم بمزايا تنافسية ويُدار وفق المفاهيم الحديثة للإدارة.