ليست المرة الأولى وربما لن تكون الأخيرة التي أتذكر فيها أبيات المتنبي الشهيرة (عيد بأي حالٍ عُدت يا عيد .. بما مضى أم لأمرٍ فيك تجديد) ونحن نستقبل عيداً جديداً يحط برحاله ثم يمضي ويبقى الحال على ما هو عليه.
رحل المتنبي وهو في حالة انتظار لأن يأتي يوم العيد بجديد يتجاوز معاناته، جاء العيد ورحل ولم يتغير شيء ومع هذا جاء التساؤل في مطلع قصيدته الحزينة عيدٌ بأي حالٍ عدت يا عيد، ما لم يفطن له أبو الطيب الذي خلّف وراءه من الحكمة ما يفوق مذاق قصيدته هو أن تغيير نفسه أسهل بكثير من تغيير الحال في زمن أشبه بما نعيشه اليوم مع فارق التقنيات.
أبيات المتنبي التي تركها إرثاً ثقيلاً على كافور الدولة الإخشيدية لا تزال عندما يقبل العيد، عاماً بعد عام منتقلاً من الإعجاب بصراحة المتنبي في إبداء رغبته وطموحاته في التغيير، إلى نقد تلك الحالة التي تعبر في واقع الحال عن قرب نهاية المتنبي حيث يبدو أقل رغبة في تغيير الذات معبراً عن يأسه وقلة حيلته وضياع آماله.
اليوم ونحن نحتفل بعيد أضحى يشرق على العالم العربي والإسلامي لا تختلف الآهات ولم تتغير الويلات التي تعيشها شعوب عربية شقيقة يمزقها مستبدون جدد استولوا على الحكم على طريقة كافور الإخشيدي، في غفلة من الشعوب العربية، ليظلوا متشبثين بسلطتهم ولو أشعلوا أجساد وأحلام شعوبهم،
وفي المحيط الفردي والأسري كثيرون ممن حولنا يتألمون ويكابدون ويقفون أمام خيارات الطموح واليأس، يشاركون المتنبي بآلامهم وإن فاقت معاناتهم ما كان عليه، كثيرون تنازعهم الفاقة وتؤرقهم قلة الحيلة، لكن نفوسهم لا تزال مطمئنة بقضاء الله وقدره، مستجيبة لطموحاتهم ومتطلعة لآمالهم.
في مثل هذه الظروف التي تثير الأسى لا بد للإنسان أن يتوقف لحظات؛ لمراجعة أوراقه وحساباته، ومحاسبة ذاته وسلوكياته إن كانت بحاجة لتغيير، والوقوف أمام ضميره للتأكد من كونه أقل ميلاً لتبرير الظلم ومآسي الآخرين، فإن لم يأت العيد بجديد عمّا مضى فإن علينا واجب المضي في تجديد ذواتنا وتغيير أنفسنا «إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم».
مهمة تغيير النفس تبدو أسهل بكثير من تغيير المجتمع برغم صعوبتها، لكنها أيضاً تعبر عن منطق حسابي فالمجتمعات تتألف من أفراد، وبقدر ما يبادر الأفراد بالتغيير ليكونوا أكثر إيجابية وفاعلية أرفع طموحاً وأنقى ضميراً بقدر ما تسمو المجتمعات وتحقق مزيدا من الآمال والطموحات التي نتساءل عنها عيداً بعد عيد.
غالباً لم يتغير الحال في الماضي، وربما لن يتغير هذا العيد، لكن تأمل حجاج البيت الحرام هذه الأيام واستلهام مشاهد الحجاج المبتهلين والملبين لنداء الله، تعبر عن رغبات حقيقية لملايين البشر من حولنا بأن يسموا بأرواحهم عن أطماع وملذات الأجساد، وهو ما يُشير إلى حياة هذه الأمة، وقدرتها على تخطي الصعاب، وهو ما يدعو بدوره إلى التفاؤل والإيمان بأن الحال لا بد وأن تتغير.
يبقى التحدي الكبير، هو أن يغير السائرون على طريق المتنبي أنفسهم، فحتى الأحلام لا بد وأن تتناغم مع الواقع؛ لترسم بمزيج من الخيال الحالم والواقع المشاهد لوحة فنية جميلة تفيد البشرية أو تضيف للذوق العام، ذلك أن تحقيق الأحلام يحتاج أيضاً إلى حالة خاصة بين مادية الحياة وروحانية الخيال.
هذه التوأمة بين الخيال والواقع، وبين الأمل والإرادة، وبين الرغبة في التغيير والضمير، وبين الإحساس بالوطن والأمة وبين صناعة الذات والعزيمة، حتى وإن لم تتغير الحال ولم تأت بالجديد الذي نتوق له فإنها تدفع بنا إلى ما يفوق انتظار ما سيأتي به العيد، وكل عام وأنتم بخير.