أنام وأصحو بهاجس واحد (ما الذي ينقصنا) في التعليم العالي، والاجابة لا شيء، لأن كل شيء موجود، الخطط والدعم المادي واستراتيجيات الدولة الواضحة وحاجتنا للتحول المعرفي وتحديات التنمية الاقتصادية والبشرية. ولو سلمنا أن كل شيء موجود اذن لماذا لا يجد الخريجون وظائف؟، وهل استحداث حافز كصمام للأمن الاجتماعي قد يفاقم مشاكل الخريجين حين تنفجر هذه الفقاعة ويتم اختزالها باشتراطات لتقنين الصرف، ليكون الضغط مضاعفا حينها كالصدمة الكهربائية لكل الجهات التي ساهمت في تنامي مشكلة البطالة بدءا بالجامعات لسوء التخطيط (وكيف تنجو الجامعات من هذا المأزق الوطني).
ولو افترضنا أن اتفاقيات التوظيف ستسهم في امتصاص الهدر المعرفي لنواتج الخريجين التي لا توائم سوق العمل، اذن ما الحل، وما الدور التصحيحي والرقابي المطلوب لدعم انتاج وادارة واستثمار المعرفة بما يساند حاجة سوق العمل وتنمية المجتمع وزيادة الكفاءة ومراقبة وتصحيح مسار تطبيق خطة التوسّع في التعليم لتوجيه الزيادة المطردة المتوقعة في أعداد خريجي الثانوية. مشكلة أخرى ذات علاقة هامة (ويطول شرحها وبحثها وحلها) هي تنامي أعداد الخريجين وتأثير النسب الموزونة في قبول طلاب في تخصصات تبعد عن اهتماماتهم رغم ارتفاع معدلات تحصيلهم في الثانوية، وهو سوء توزيع لا يعين الشباب على الابداع باعتباره أحد أهم دعائم المجتمع المعرفي وقد يكون في تطبيق الاختبارات الجامعية بديلاً استراتيجياً أفضل من الروتين القائم لقياس المعرفة حسب التخصص والابتعاد عن اختبارت التحصيل والقدرات التراكمية، أمر قد يتم تطبيقه حين نتوقف عن قراءة الارباح المادية السريعة مقابل ثروات وطنية مؤجلة، أو حين تنتفض إحدى الجامعات لاستحداث معايير قبول نوعية للموهوبين والمبدعين، وهو ما يمكن تلخيصه باعتماد آلية القبول المطور المبني على الجدارة العالية، وتغيير آليات التخصيص في المسارات الدراسية المهنية والمبني على قبول المعدلات التراكمية المنخفضة للطلبة لنماذج مستحدثة تخدِم التعليم المنتهي بالتوظيف (نموذج طلبة ريادة الأعمال، ونموذج المتعلّم العالمي، ونموذج القبول الوظيفي المشروط SPONSORSHIP PROGRAM والمرتبط بمكافآت التميّز)، لكن من يستبق لاقتناص الابداع المعرفي في بيئات أكاديمية غلبت عليها بيروقراطية العمل الروتيني والتسليم بالواقع.
الدولة الرشيدة بكل أجهزتها وقياداتها في تحد أمام تحصين الشباب وضرورة استحداث مسارات مهنية مبكرة في التعليم العام، لمعالجة تسرّب ما يقارب 5 % من مخرجات التعليم من طلاب الثانوية دون إكمال التعليم، ومعالجة ضعف مخرجات التدريب المهني والتقني، واستحداث برامج وطنية واختبارات لتأهيل الطلبة خريجي الثانوية العامّة وتمكينهم من المعارف الكافية، ومن اختيار التخصصات التي تُناسب قدراتهم واحتياجاتهم جامعياً ومهنياً. ولا بد أن ترتبط هذه البرامج باعتماد نظام معلومات أو قواعد بيانات مشتركة بمؤشرات لقياس احتياجات القوى العاملة في المملكة العربية السعودية لعشر السنوات المقبلة وتحديث الإحصاءات الدقيقة لاحتياج سوق العمل ضمن الخطط العشرية لمصلحة الإحصاءات وربطها بالتوسّع والتنوّع في البرامج الأكاديمية باستحداث تخصصات حيوية ومهنية نوعيّة وِفقاً لتصنيف معتمد وترميز شامل ودقيق لكل تخصص وربطه بما يُقابله من مجالات وظيفية في بيئة المال وسوق العمل. وهذا لن يكون الا باستراتيجية عمل وطنية وتغيير في بنود وزارة العمل وخططها المعلنة لتنمية بيئة عمل شابة وسعودية (أناقش معكم في مقالي القادم ما يمكن تغييره مع وزارة العمل التي لا بد أن تبدأ العمل).