تحدثتُ في المقال السابق عن المكائد التي يدبرها اليهود لهدم المسجد الأقصى، فقد كادوا لتقليل عدد المصلِّين فيه، فوضعوا كثيراً من العقبات التي تجعل وصولَ المصلين للمسجد الأقصى شاقّاً بدنيّاً، بالتنقُّل من محطَّة إلى أخرى، وفيه مشقَّة زمنية، حيث يُمضي المصلِّي الساعات الطوال للوصول للمسجد، وفيه كذلك كلفةٌ ماليَّة، بل وبلغ مِن كيدهم أنهم مَنَعوا من كان دون الخمسين عاما مِن دخول القدس يوم الجمعة، فشكر الله للمرابطين في المسجد الأقصى، لموقفهم المشرِّف للحيلولة دون هذه المخططات، فبذلوا جهوداً كبيرة للحيلولة دون هذه القوانين الظالمة، ذلك أنهم عَمَدوا إلى إعادة حِلَق العلم القديمة لسابق عهدها، فأصلحوا المَصاطب التي أُنشئتْ في القرن السابع، وكان عددها أكثر من ثلاثين مِصطَـبَّة، كمِصطبَّة البُصيري التي أُنشئتْ في العهد المملوكي سنة658هـ، ومِصطبَّة باب المغاربة ومِصطبَّة باب الحديد وغيرها، وكلُّها لا يزالُ بنيانها قائماً، والمِصْطَبَّةُ مرتفَعٌ من الأرض، يكون مُجتَمَعاً للطلبة، فهي بناء مُمهَّدٌ، يَرتفع عن ساحة المسجد الأقصى بما يقارب الذِّراع، مربَّعة الأضلاع أو مستطيلة، وقد يكون لها تجويف على هيئة محراب باتجاه القبلة، لأن المصطبَّة جزءٌ من المسجد، والمعتاد في المصطبَّة أنْ تكون مِن حَجرٍ أو مِن مَرمرٍ، والغاية من هذه المصاطب أن تكون موضعاً لحلق العلم، لنشر العلوم الشرعية، كالفقه والحديث والتفسير وغيرها، وما أشرَفَه مِن موضع، فحين قِيلَ لأبي جعفر المنصور: هل بَقيَ مِن لذَّات الدنيا شيءٌ لم تَنَلْه؟ قال: (بَقِيَتْ خصلةٌ: أنْ أَقْعُدَ فِي المصطبَّة، وحولي أصحابُ الحديث، فَيَقُولُ المُسْتَمْلِي: مَن ذَكرتَ رحمك الله). وربما كانت هذه المصاطبُ موضعا لعقد اللقاءات والمجالس العلمية، أو للفصل في الخصومات، فقد عُقدتْ بها مجالسٌ لفضِّ المنازعات والخصومات، كالمجلس الذي عُقد سنة 879هـ على مصطبَّة باب المغاربة، وحضره جمعٌ من الفقهاء، في قضيَّةٍ تتعلَّق بدعْوى تَقدَّم بها بعض المقدسيين على هدْم كنيسٍ يهوديٍّ بُنيَ على أوقاف المسلمين، وزِيدَ في العصر الحاضر هدفٌ حديث، وهو إلقاء المحاضرات ليزداد عدد المرتادين والزوَّار للمسجد الأقصى، وهي محاضراتُ توعيةٍ وَوَعْظٍ لعموم المصلِّين، ومحاضراتٌ أخرى للتعريف بفضل المسجد، وبتاريخه وحدودِه ومعالِمِه، ولعلَّ أهم هدفٍ هذه الأيام -وهو واجبُ الوقت- تشجيع الناس على ارتياد المسجد الأقصى وزيادة عدد المصلين فيه، لئلا يستغلَّ اليهودُ قلَّة عدد المصلين، ويجعلونه ذريعةً لهدمه، ثم إنهم عملوا عدداً من المشاريع في سبيل هذا الهدف النبيل، منها مشروع مسيرة البيارق لعمارة المسجد بالمصلين، عبر التواصل مع شركات السفر والسياحة، لتيسير نقل المصلِّين للأقصى، مِن جميع المدن والقرى الفلسطينية عبر حافلات مجانية، لتخفيف التكاليف العالية التي صارتْ عائقاً حالَ دون وصول كثير من الناس للصلاة في المسجد لأداء الصلوات فيه، وخاصَّة صلاة الصُّبح، وبهذا تقع زيارات متكرِّرة في عموم الأوقات، ليكون عامراً بالمصلين ليلا ونهارا، وقد جاء في الحديث ما يُرغِّبُنا في هذا العمل الجليل، فقد سألتْ مَيْمُونَةُ مولاةُ النَّبيِّ «صلى الله عليه وَسلم» قالت: قلتُ: يَا رَسُول الله، أَفْتِنَا في بَيت المقدس قال: أرضُ المحشر والمنشر، إيتوهُ فصلُّوا فيه، فإِن صلاةً فيهِ كألفِ صلاةٍ في غيره، قلت: أَرأَيْتَ إنْ لم أستطع أنْ أتحمَّل إليه؟ قال: (فَتُهْدِي لهُ زيتاً يُسرَجُ فيه، فَمن فعلَ ذلك فَهُوَ كمَنْ أَتَاهُ). قال العلماء: فجعل عليه الصلاة والسلام إهداءَ الزيت يقوم مقام الصلاة فيه، وهذه من علامات النُّبوَّة، وفضلُ الله يؤتيه مَن يشاء.