كتاب كثيرون ومفكرون كثيرون نختلف معهم ونحترمهم في نفس الوقت، إذ ما توجسنا أنهم صادقون في طرح أفكار ناقدة، مهما كانت قاسية، إن لم يكونوا شتامين أو يستجيبون لـ«محركات» العقل الباطن الملوث الذي يختزن إما معلومات مشوهة أو تحفزات الانتقامية الباطنية السوداء.
الصحفي الكاتب «المنظر» حسنين هيكل، رجل شهير، ولا يزال هناك من يسلط عليه الضوء، ليس اعجاباً بنبوغاته المنتهية الصلاحية حالياً، وإنما للظن أنه يستجيب غريزياً لـ«التوظيف» أو لا يمانع أن يجري توظيفه حتى في الصراعات القذرة والتكتيكات الصبيانية، على الرغم من ان هيكل ينتمي فكرياً إلى عصر سبعينيات وستينيات القرن الماضي، ولا يبدو له علاقة بالألفية الثالثة، إذ كل ما يطرحه يتناسب مع حقب مضت، أيام كان الكتاب يفاخرون بخطوط أيديهم ويعانون جفاف المحابر المائية، وأيام كانت قوى فاتنة حاضرة ومتوجهة ولكن الآن انطفأت وهوت نجومها، واختفت من الخريطة ولم يعد حتى التاريخ يتذكرها بأي سطوع.
ولا يزال هيكل يبني آراءه وأفكاره على مقاسات شخصيات لم يعد يسمع عنها جيل الألفية الثالثة، فيستدعي شخصيات، وهي رميم، من مقابرها، ويتخيل أنها حية تسعى ولا تزال تقرر اتجاهات الأحداث في العالم. يتخيل أن عبدالناصر وسوكارنو ونهرو وتيتو مجتمعون يتتالون على المنابر ويضربون على دفوف مجموعة عدم الانحياز، المنظمة الفارغة التي خلقت لـ«الهياط» فحسب، وأن جون كنيدي يعقد اجتماعات في البيت الأبيض لمناقشة أزمة «خليج الخنازير»، وخروتشوف يكابد مؤامرات الرفاق في الكرملين. ثم يطفق هيكل يستحلب أفكاراً من أفواه هؤلاء وإعلامهم وصحفهم ومعلقيهم البائدين، لهذا هو مصاب بعمى ألوان، ولا يرى، أن المملكة قوة أو دولة مؤثرة، وهذا ما كان يكتبه هيكل طيلة 50 عاماً.
وفي الحقيقة، فإن هيكل يطرح دائماً رؤية أحادية عدائية ضد المملكة والخليج. وربما سببها الشعور الحاد بالهزيمة، حينما اضطرت الناصرية، وهيكل أحد أقذع منظريها، إلى الاعتراف بغرورها وجنوحاتها والانحناء للمملكة وقيادة الملك فيصل رحمه الله في مؤتمر قمة المصالحة في الخرطوم عام 1967. ومنذ ذلك الوقت أصيب هيكل بـ«سعار» حاد ضد المملكة وقيادتها وشعبها وكأنه قد تجرع السم. وعلى مدى 50 عاماً لم يترك مناسبة إلا وهو يهاجم أو يركل أو يهمز ويلمز ضد المملكة، من الشتائم الممنهجة في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات والتسعينيات إلى «التخريفات» الحالية.
وهيكل نفسه هو الذي طرح مبدأ «المدن» و«القبائل». وكان يؤيد استيلاء صدام حسين على الكويت لاغتصاب ثروة البترول من «القبائل» وجلبها إلى «المدن»، وهو بذلك يقضي أن القبائل نفي تاريخي والمدن إشراقة الشمس والزمان. وهذه عنصرية لم تستطع كل البلدان والمدن والمكتبات التي زارها هيكل والمعلومات والمعارف والأنوار التي يدعي هيكل تخزينها، تنظيف عقله الباطن من تلوثاته التاريخية.
وفي الحقيقة فإن هيكل قبل أن يصبح عجوزاً، وقبل أن يبتلى بإعادات سمجة لتخريفات يحولها لحكايات، وحينما كان بأوج قدراته الذهنية، كان يقول نفس الكلام، وهو الآن يجتر نفس مصطلحات وأفهام الألفية الثانية التي تطرح الآن كأوهام ولم تعد قابلة للفهم ولا للاحترام في الألفية الثالثة، وعصر «تويتر» و«آيفون» و«سامسونج» و«دوت.كوم». وتر
يسن المعتدون خناجرهم،
والمهرجون يعتلون المنابر،
وأضواء الفضائيات..
وزهرة المآتم.. تواري خجلها ونحيبها..
دمعها أنهار المآسي،
إذ الدم يهرق كالماء..
وإذ مدن اللجوء منافي..