ماذا حين يستثيرك المعنى، وتوقفك الفكرة، وتعتقلك الهواجس، وترفعك خواطر ويخفضك بوح؟، فتتساءل فما بين الزمن والزمن إلا أزمنة، وما بين التغير والتغير إلا تغيرات، فتعجب، تستغرب، تضع رأسك على وسادة قاموس قديم غطاه التراب لتستفهم عن مفهوم، وتتفهم لاستفهام، فكان التفكير بعده تدبر، وكان التدبر عقبه تفكير، وكأن الاسئلة تتزاحم في طرف الألسنة، وكأن الأجوبة تخشى الإجابة،
تبدل الكثير بكثير، وتغير الغالب بغالب، وتحول الأول إلى تأويل،
وأصبح لكي تكون أصيلا متأصلا لا بد أن تقصي نفسك عن الآخرين أو يقصيك الآخرون، وتنفي واقعك عن واقع الغير، وتتحدث بلغة جديدة لا طرب فيها أبدا، ولا قواعد، فالنصب هو الفعل، والفعل هو الجر، والجر هو الجزم، والجزم هو الرفع، وما بين نكرة ومعروف، وفكرة ووصوف قتلت كل الحروف، أدرت رقبتي بذهول وأنا اسمعه يردد "يبي له دهن سير" قلت رشوة قال: لا تتزمت شيء بسيط.
وطار ذلك المعدني بأسرته "لشمة هوا" إلى أراضي "الفلة" كما زعم قلت: اذهب واستتر لك ولأهلك قال: لا تتشدد يا رجل "محدن يطالعك هناك"، وقفز في وجه الوجيه يحلف أنه ليس لديه بيت يؤيه وعياله، قلت: وبيوتك الثلاثة رد: يا رجل لا تدقق هو يأخذ وأنا آخذ.
وجلس على كرسيه بعد تعيينه انهالت عليه المعاملات، أزاحها جانبا واخذ يفكر كيف يعيّن بعض أقربائه ويجلب محسوبيه حوله، قال له: اعدل وابدأ بالناس أولا رد: "الأقرب أولى بالمعروف" واللي ما فيه خير لأهله ما فيه خير"، هو أطلق الذئب داخله، خالف، واصطدم، وخدع وفعل ما فعل، قال له: لكن هذا لف ودوران وتسفيه وغير مقبول رد بارتفاع: لا تصير ضعيف "خلك ذيب".
وقفز الرصيف حين أقفلت إشارة المرور ليتفادى ذلك الزحام الذي يقلقه قال له: "لا تخالف وقد تضر بأحد" رد عليه: "في ها لبلد لازم تصرف عمرك كذا".
هكذا يبدو المشهد في كثير من الزوايا الاجتماعية لدينا، هو مشهد منقلب المفهوم، ومفهوم التقلب، حتى أن المتناقضات كلها قد تجتمع في أحدهم وهو يجد مبرر تلونه، وتقلبه، وتنازله بسهولة، فيكون ما يفعله هو قاعدته، وغايته هي نظامه، ويكون قانون الناس المختلين هو فلسفته، فتبرز ثقافة نفسي نفسي بجرأة، وتظهر سياسة أنا المفكر وغيري يسمع.
كم هو مؤلم في مجتمعات تحتضن قيم دين قويم تكون المفاهيم الفاضلة خلاله متحولة، وتتخذ مسميات مهترئة، فتصير الكذبات سياسة، وتكون المخالفات تصريف أمور، وتصبح الرشاوى إكراميات و"دهن سير"، ويمسي التدين حالة ثقافية موروثة، ويغدو السفور في السفر "شمة هوا"،
وتكون المحاباة والمحسوبية للأقارب معروفا ورحما، و"الذيب" هو من يلف ويدور ويخلص نفسه بمشروع أو غير مشروع، وكثيرٌ من غير ذلك يحصل، والمزعج حقا أن يصر بعضهم على أن يمكنك من تلك الأدوات المختلة، ويحاول أن يجبرك أنه الصواب ويجب أن تتبع فلسفته وسياسته وثقافته أو تنتظر وصفا لا يليق بك.
ختام القول: يبدو المرء غريبا حين يتحدث عن عام هجري أصابه السعال بين تواريخ ميلادية يحسب بها الزمن الحالي، وتتساءل ماذا يحدث لماذا يتخلون عن الحق، ويتبعون الباطل ومسوغاتهم هي مبرراتهم الخاصة، وحين تتحدث عن زمن أصيل وجميل، ومبادئ فأنت عند الكثير قد تخلفت كثيرا عن قافلة التطور البشري، وتكون رجعي الهوى، وقديم التفكير، وغابر الأمنيات، ولتعش وحدك بعيدا.
كاتب