ظلت (المعاريض) ومفردها (معروض) لفترة زمنية طويلة أحد أهم الوسائط التي يصل المواطن من خلالها إلى المسؤولين وولاة الأمر، وتكاد تكون الطلب الأول الذي تسمعه من موظفي الحكومة بمجرد أن تتقدم لهم بشكوى أو تظلم أو طلب أو التماس ما، ويمكننا تعريفه بالخطاب المكتوب بخط اليد، يُعَبِر فيه مقدمه عن طلبه أو شكواه، كي يصبح مسوغه الرسمي لمتابعة مسار معاملته، وقد حافظ هذا الشكل التقليدي (للمعاريض) على صيغه وكيفياته لفترة زمنية ليست بالقصيرة، حتى إن بعض من أجادوا الكتابة أو الخط والإملاء استحدثوا لأنفسهم وظيفة خاصة يمارسونها أمام مقرات الدوائر الحكومية، تحت مسمى كاتب (معاريض)، وهي وظيفة لا تتطلب أكثر من طاولة وقلم وأوراق، وشيء من التمرس في أساليب كتابتها، وكأنهم ابتكروا لتلك (المعاريض) فنا خاصا بها، له نظامه وصيغه وآلياته المقننة، التي يعرفها هؤلاء دون غيرهم. هذا العهد وتلك المرحلة يبدو أنها على وشك الاضمحلال، فباتت (المعاريض) في شكلها الورقي التقليدي على مرمى نظر من الانقراض، بعد أن دخلت عليها في الخط طريقة جديدة ومبتكرة، باتت تهدد (المعروض) المكتوب بخط اليد، وإذا كانت الحاجة أم الاختراع فقد استحدث أصحاب الحاجة كيفية ناجعة في ظني، تصل بأصواتهم إلى المسؤول في ثوانٍ معدودات، ولا تحتاج إلى وسيط أو مدير مكتب، أو سكرتارية كما هو المعتاد، إنه (المعروض) المصور صوتا وصورة، وبكبسة زر على كاميرا الجوال، ثم عرض الطلب، وبث المقطع على قنوات التواصل، وهذه الطريقة المستحدثة تدخل دونما شك في عملية تطوير (المعاريض) بما يتوافق مع النقلة الإلكترونية التي تعيشها المجتمعات في الآونة الأخيرة، ويقدم أنموذجا فاعلا في الحصول على حلول عاجلة لمشكلات عاشها البعض سنوات طويلة.
الشيء اللافت أن هذه المقاطع المصورة التي نسميها (المعاريض) الجديدة، بدأت تجد القبول من المسؤولين وسرعة التجاوب، وهنا مكمن القضية وفحواها، فمعنى أن يستجيب المسؤول بسرعة فائقة إلى طلب أحدهم أو لنقل (معروضه) المنشور في مقطع فيديو سيكون مبررا للكثيرين كي يقدموا (معاريضهم) على النحو نفسه، وقد تابعت وتابعتم المقطع المصور للشاب (جرمان) الذي نشره قبل أسابيع معدودة، وصور وضعه وهو يمسك بوالده المقعد، وكان يعرض بالصوت والصورة حاجته الماسة لوظيفة وسيارة، كونه الولد الوحيد بين والدين وست فتيات، وقد ناشد بأسلوب مقنع المسؤولين بتصحيح وضعه، فجاءت ردة الفعل السريعة للغاية من ولاة الأمر أولا، ثم من محسنين لا حصر لهم ولا عد، كما أنها جاءت من متطفلين كثر أيضا، وهذا كله يدل على شيء واحد فقط، أن المعروض المصور آتى أُكله، وأنه أثبت جدارته حتى أنني وفي غضون أيام معدودة شاهدت مقاطع مصورة عديدة لنساء وشباب يطالبون كما طالب (جرمان).
نخلص مما سبق إلى ما يلي: أن ثمة مرحلة جديدة، لها إيجابياتها وسلبياتها التي لا يمكن غض البصر عنها، ومن إيجابياتها: زوال وتحطم تلك الحواجز التي يصنعها بعض الموظفين بين المواطن والمسؤول، وأن من يجتهدون على غير حق ليجعلوا الوصول إلى صاحب القرار مهمة مستحيلة ضربتهم التكنولوجيا في مقتل، أما سلبياتها فتتمثل في استسهال البعض واستغلالهم هذه التقنية بأشكال مسيئة وغير لائقة، حتى أن بعضهم ربما أساء لنفسه ولأسرته أو حتى لمجتمعه، ومن السلبيات أيضا أن الاستجابات السريعة تعطي البعض مبررا لركوب الموجة دون حاجة أو عوز!، وفي اليوتيوب شواهد عديدة، ولكن بيت القصيد في هذا كله أن المرحلة لم تعد تحتمل روتين العمل المعتاد ولا الأساليب البالية التي اعتادت عليها بعض الدوائر الحكومية، فهي مرحلة سريعة التغير والتجدد وتتطلب حالة مماثلة من السرعة والديناميكية!!