في رمضان يحجم كتاب كثيرون عن الكتابة والتفرغ للواجبات الرمضانية الدينية والاجتماعية، وهو موقف له مبرراته لدى من يتبناه عن قناعة، فمن يخش الوقوع في زلة اللسان، أقصد زلة القلم، يتحاش الكتابة في أي موضوع، مع أن جميع المواضيع التي يمكن الكتابة عنها شائكة تقود إلى إشكالية المجابهة الصريحة، لاكتشاف ما في أعماقها من حسنات أصيلة، وردم ما يظهر على السطح من سيئات مكتسبة، وهي حسنات تتعلق بالعبادات والعادات الرمضانية الحميدة التي تعودت عليها أجيال سابقة، حافظت عليها، وتمسكت بها، وهي لا تعكس فقط الجوانب المشرقة في حياة الآباء والأجداد، ولكنها وهذا الأهم تراعي تعاليم الدين الحنيف، وما يفرضه من موجبات الصيام، وما ينهى عنه من مبطلاته.
أما ما أشرنا إليه من السيئات المكتسبة فقد جلبتها إلى حياتنا التقنيات الإلكترونية الجديدة التي ولجت إلى حياتنا من أوسع الأبواب، ولقيت في مجتمعاتنا بيئة صالحة للتمدد والانتشار بين الكبار والصغار، وربما منع الحياء بعض الصغار من ممارستها، لكنها أصبحت أكثر انتشارا بين أوساط الكبار في الاستراحات ومجالس السمر التي يمضي فيها الوقت دون مكاسب واضحة، فالسهر أصبح سمة العصر، أما في أي شيء يكون هذا السهر، فهذه مسألة يتسع الحديث عنها، وليته سهر في قراءة القرآن، واستذكار سيرة السلف الصالح، والحديث المفيد عن (سوالف) الآباء والأجداد، وحوادث التاريخ قديمه وحديثه، ولكنها في الغالب إما في لعب الورق، أو الانشغال في التصفح الإلكتروني بواسطة الواتساب وأخواته سيئات السمعة، وكل ذلك يستهلك أوقاتا يمكن أن تعود على المسلم بالنفع لو أمضاها في قراءة القرآن، ومخالطة أهل العلم، والاستفادة من تجاربهم في الحياة.
وتتنافس المسلسلات التلفزيونية الرمضانية في الاستحواذ على اهتمام الصائمين، وظاهرة السهر مع هذه المسلسلات لا تحتاج إلى إثبات بعد أن أصبحت عادة متفشية بين الناس، وإذا كنت أعني هنا الكبار، فلأنهم القدوة لأبنائهم، فلا يمكنك أن تمنع أولادك من فعل أنت تمارسه أمامهم، فأنت قدوتهم في كل ما تفعل من حسن أو سيئ، فإذا ارتكب أحد أبنائك خطأ فعليك أن تلوم نفسك قبل أن تلومه، لأنك لم تحسن تربيته، وقدمت له من نفسك نموذجا سيئا لا يشرف، فكيف تنهى عن خلق أنت فاعله، أليس من الأجدى أن تبدأ بنفسك قبل أن تبدأ بغيرك.
ثمة ظاهرة أخرى هي أن أيام رمضان لم تعد مميزة عن بقية أيام العام، كما هو الحال في الماضي، بل أصبحت لدى بعض الناس كغيرها من الأيام الأخرى، فلم تعد المشاعر الرمضانية كما هي سابقا، مع ما في رمضان من ملامح روحية أصيلة تقرب الإنسان إلى الخير، وتدفعه إلى الإحساس بمعاناة الآخرين في الأيام الرمضانية، والصيام في أجواء مناخية قاسية، وهي أجواء يعلن بعض الصائمين تذمرهم منها، مع أنها كانت بردا وسلاما على الأجيال السابقة، التي لم تتوفر لها أسباب الراحة كما هي الآن، لكن هؤلاء المتذمرين قلة، وأغلبهم من المدخنين الذين وضعوا أنفسهم أمام هذا الامتحان العسير وهم في غنى عنه، والعاقل من استفاد من فرص الخلاص من عيوبه، ورمضان فرصة ذهبية للخروج من مأزق التدخين، لدى من يملك الرغبة والعزيمة لترك هذه الآفة المستحكمة في نفوس بعض الناس. ومع كل ما يطفو على سطح رمضان من سيئات مكتسبة، لم تكن معروفة في الماضي، فإن لهذا الشهر حرمته ومكانته اللائقة به في نفوس الغالبية العظمى من المسلمين، فهو شهر الخير والطمأنينة والصدقات والعبادات التي تقرب الإنسان من خالقه كما تقربه من الناس حين تسمو مشاعره عن صغائر الأمور، وتقوى إرادته في مواجهة تحديات الانشغال عن واجبات الصيام، وهي تحديات كثيرة في هذا العصر، الكل يعرفها، ولكن ليس الكل يعترف بها، وهي التحديات التي تدفع الكتاب للكتابة عنها، وليس الوقوف حيالها موقف المتفرج.